أوراق الخريف.. الأرجوحة (٢)

شرين خليل | مصر
بدأتُ رحلتي وحياتي الجديدة وروحي مفقودة فأنا جسد بلا روح ..
روحي ما زالت في حضن أبي، تأخُذني أحلامي في كل ليلة إلى غرفتي واستيقظ وأنا في ذهول لأجد نفسي في مكان غريب لا أعرفه أصرخ بشدة وأتساءل أين أنا؟ وأين أنت يا أبي؟ سنين طويلة لم أفارقك ولم أفارق غرفتي وبلدتي حتى أُرجوحتي وفجأة أجد نفسي في بلد أخرى بيني وبين بلدي آلاف الأميال أوشكت على الإنهيار حتى ظن زوجي بأن هناك من سحرني وذهب لأحد الشيوخ وجاء به إلى المنزل الخاص بنا وتحدث معي وأخبر زوجي أنني أعاني من حالة نفسية سيئة واقترح عليه السفر إلى إحدى الأماكن المريحة للأعصاب.. حاولت التظاهر بالقوة ولكنه شيء خارج عن إرادتي.
لم يتركني زوجي في هذه الحالة وبذل قصارى جهده للتخفيف عني. سافرنا الى بلدان كثيرة .كنت أتحدث مع أبي يومياً عبر الهاتف وأراسله كثيراً ووعدني زوجي أنه في أقرب فرصة سوف يُرسل لأبي زيارة..
أخبرني أيضاً أنه وجد لي عمل في إحدى المدارس فالعمل سيُخفف عني الشعور بالوحدة والإغتراب .
تسلمت عملي كمعلمة لغة إنجليزية بإحدى المدارس الخاصة بالبنات وبفضل الله كُنت مُعلمة متميزة وأحبني الجميع وأصبح لديّ صديقات من كل مكان، وبالإضافة إلى ذلك كُنت أقوم بترجمة الأبحاث الخاصة لطلبة الدراسات العُليا لأحد المراكز المتخصصة في الترجمة و بدأ اسمي كمترجمة ومُعلمة يلمع في المنطقة وانهالت العروض عليّ لإعطاء الدروس الخصوصية ومن هنا بدأت حياتي تتغير من النقيض إلى النقيض ولكن من وقت لآخر يأخذني الحنين إلى بلدي خاصة عندما استمع إلى فيروز وهي تقول نسم عليّ الهوى من مفرق الوادي… يا هوى دخل الهوى خدني على بلادي..
وأتذكر أبي وأشعر بالذنب تجاهه فهو وحيد ..
أنا معي زوجي وهو الذي وهب حياته لي ولم يتزوج لأجلي..
تركته وحيداً ..
ماذا لو مرض ليلاً؟ ماذا لو إحتاج لشيء؟ من سيرعاه؟ لم يعُد أبي صغيراً وقادراً ليعتني بنفسه فهو يحتاج من يرعاه .
عندما تحدثت مع زوجي عن هذا الأمر كان رده غريباً علي: هشام أنا قلقانه على بابا جداً ..
بتصل عليه من الصبح مش بيرد واتصلت على عمتي رجاء قالت لي هتروح تطمن عليه بس لحد دلوقتي ما كلمتنيش ..
-أقولك حاجة.
-قول بسرعة أنت عارف حاجة ومخبيها عني..
-بصراحه يا أشرقت باباكي المفروض يتجوز كفايه عليه كده وكفايه أنانية منك ..
-أنانية؟؟!! إنت بتتهمني إني أنانية عشان خايفة على بابا وبحبه وبعدين هو اللي رفض الجواز..
– أشرقت إنتِ المفروض اللي تعرضي الفكرة عليه .
-بابا مش هايوافق.
-وعرفتي منين ..
-لو كان عاوز يتجوز كان عملها من زمان
-مش باقولك أنانية وعامله نفسك مش واخده بالك..
-مش واخده بالي من ايه يا أستاذ هشام ؟؟
– إن إنتِ اللي كنت الحاجز والمانع أنه يعمل كده وبعدين أنا شايف إن الحياة هنا بدأت تعجبك وناويه إنك تطولي صح ولا انا غلطان؟
-ماكدبش عليك الحياة هنا فعلاً عجبتني وخصوصاً إن بقى لي إسم ومركز ودخل مادي كبير هايخليني أحقق الحلم اللي بابا نفسه فيه وهي إن يبقى عندنا مدرسة.. مدرسة مختلفة ويكون بابا المدير بتاعها وأنا طبعاً هاشتغل فيها وإنت هتكون المسؤل عن كل حاجة
-ده إنتِ مخططة لكل حاجة وأنا آخر من يعلم
-دا حلم بابا من زمان وعنده حتة أرض كان دائما يقول لي نفسي ابني عليها مدرسة وتكون مختلفة وأعلم الأطفال فيها القيم والمبادئ والأخلاق وحب الوطن والرياضة والفنون ويطلع منها جيل مختلف..
-فعلا حلم رائع وجميل..
-إن شاء الله هيتحقق الموضوع مش صعب ولا حاجه تعرف إن أصحاب المدرسة اللي بشتغل فيها لما عرفوا الفكرة شجعوني وقالولي لي إن ممكن يشاركوني فيها لو حبيت بس أنا باتمنى إنها تكون بتاعتنا إحنا بس عشان كده مش هانزل من هنا إلا وأنا معايا اللي يكفي المدرسة وزيادة
-يبقى لازم تعرضي على باباكي الفكرة اللي قلتلك عليها
-إنت وعدتني إنك هتجيب بابا زيارة وهيعيش معنا هنا .
-هايعيش معنا شهر ،شهرين ،ثلاثة لكن مش هايوافق يعيش هنا على طول لأنه هايحس بالغربة والوحدة . طبعا يجي على عيني وراسي لكن هو مش هيستحمل إنه يقعد هنا كثير خصوصاً إنك بتشتغلي مش قاعدة في البيت وهو ما يعرفش حد هنا ولا له اصحاب وإنتِ عارفه إن طبيعة البلد هنا مختلفة عن مصر هيحس بخنقه وزهق ليه تعذبيه معاكي..
-طيب سيبني أفكر شويه.
– لسه هاتفكري.. الموضوع مش محتاج تفكير ولا لازم الأول تسألي الأرجوحة بتاعتك اللي قبل ما بتاخذي أي قرار لازم تاخذي رأيها الأول. أنا بقى عاوز أعرف إيه حكاية الأرجوحة دي ؟
-الأرجوحة دي آلة الزمن بالنسبة لي ..
-آلة الزمن ؟؟مش فاهم ..
-هافهمك بس التليفون بيرن دا أكيد بابا هارد عليه بسرعه عاوزه اطمن عليه ..
-ماتنسيش تعرضي عليه فكرتي ..الجواااز..
رديت على أبي بلهفة شديدة واطمأننت عليه وأخبرته بالعرض الذي اقترحه هشام ووافق أبي فهو كان ينتظر هذا العرض ..
تملكني الشك بأن هشام قد اتفق مع أبي بدون علمي ..
أغلقت الهاتف.
نظرت له نظرات حائرة واقتربت منه فأنا لم يخدعني أحد مسبقاً..
خاطبته بحدة : هشام إنت متفق مع بابا من ورايا ..ودي فكرتك ولا فكرته ..بابا ماصدق وزي مايكون كان مستني كلمتي وطبعاً العروسة موجودة هو أنت خسران حاجه كل دا عشان بابا مايجيش يعيش معانا..
-أنتِ بتقولي إيه أولا أنا مااتفقتش مع والدك ولا كلمته ..
ثانيا ليه هارفض إنه يجي يعيش معانا ..
وبعدين إنتِ ليه حادة في طريقة كلامك كده ..
والدك من حقه يتجوز بلاش أنانية
بلاش تبقي عامله زي الأرجوحة اللي بتبهر الناس ويبقوا فرحانين بها وترفعهم لفوق وبعدين تنزلهم لتحت لا مش بس كده دي ممكن توقعهم على جدور رقبتهم..
-إيه الكلام اللي بتقوله ده أنا عشان خايفة على بابا تقول كده..
-إنت مش خايفة عليه إنت اللي مش عايزه حد يشاركك فيه سيبيه يعيش حياته زي ما إنت عايشه حياتك وخليكي الجانب الحلو من الأرجوحة اللي بيبسط الناس ويطير بيهم ويعيشهم شعور حلو بلاش الجانب اللي بينزل لتحت واللي بيخوف الناس ما هي مش كل الناس بتحب الارجوحة..
-يعني انتو مش متفقين من ورايا .
-لا طبعاً..
-هشام أنا مش بحب حد يخدعني..
-محدش بيخدعك ولا حاجه..
-طيب إزاي بابا وافق كده على طول؟أنا كنت بقوله ومتوقعه أنه يرفض ..
-في حاجات بتبقى واضحة زي الشمس بس إحنا مابنبقاش شايفينها كويس أو مش عاوزين نشوفها ..افرحي لبابكي وفرحيه وباركي له وكفاية كلام في الموضوع دا كتير ..
دخلت غرفتي وجلست على الأرجوحة أفكر في كلام هشام هو على حق ولكن شيئاً ما بداخلي يؤلمني عندما أتخيل أن أبي تزوج من إمرأة أخرى …لا أستطيع أن أمنعه ولن أستطيع أن أُخفى مشاعري الذي يعتبرها هشام أنانية..أنانية لأني اعتدت أن يكون حب أبي لي أنا فقط ..لن أفكر في شئ سوى عملي حتى أحقق حلمي وأرجع إلى أبي حتى أكون بجانبه..
مرت أيام قليلة وتزوج أبي من جارة لنا سيدة تجاوزت الأربعين عاماً ولم تتزوج . كانت تُحب أبي وحاولت تقترب مني كثيراً وأنا صغيرة وكنت أبتعد عنها لم اجعلها تأخذ فرصتها في التقرب من أبي ولكن في النهاية تزوجها فهي طيبة وحنونة انتظرت أبي كثيراً حقاً لقد كنت أنا الحاجز مثلما قال هشام..
مرت السنون وأنجبت ثلاثة من الأبناء ربيع على اسم أبي وعماد على اسم والد هشام ونزار.. أحببت الحياة هنا وامتزجت بها وكأني نشأت فيها حتى طريقة ملابسي وكلامي .
بعد كل هذه السنين جاء موعد الرجوع والعودة إلى الوطن هناء تزوجت وسافرت إلى ألمانيا والد هشام مريض ويحتاج هشام بجانبه وأبي يشتاق لأولادي..
لم أكن أتوقع أنني سأرتبط بهذه البلدة وأشعر بالغربة وأنا أتركها على الرغم أني عائدة إلى وطني..
حقاً هذه الحياة غريبة يحدث دائماً ما لا نتوقع حدوثه فأنا سافرت وكنت كارهه للسفر والآن لا أريد الرجوع..
عزائي الوحيد هو أنني سأحقق الحلم ..المدرسة.. عُدنا إلى بلدنا الحبيب وبدأنا في تجهيز الأوراق المطلوبة لبناء المدرسة وأوشك الحلم أن يتحقق وأعلنا عن الحاجة إلى موظفين وموظفات ومعلمات.. انتهينا من البناء والإعداد والتجهيز وبدأت مرحلة اختيار الموظفين والموظفات والمعلمين والمعلمات لم تكن مهمة سهلة على الرغم من وجود لجنة مسؤلة عن إختيار العاملين إلا أنني كنت أراقب كل شيء بنفسي وأقابل كل من توافق عليه اللجنة وأختبره بنفسي مرة أخرى فأنا أريد الدقة في كل شيء ..
وفي يوم دخلت فتاة جاءت من أجل الوظيفة يبدو عليها النشاط والهمة ،مظهرها جيد جداً ،تحمل ملف ملئ بالشهادات ..الغريب أنها هي التي طلبت مقابلتي ..
بدأت معها الحوار وكانت المفاجأه عندما سألتها عن اسمها وقالت:..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى