منطق القرآن بين التوصيف والدعوة والجدل مع (أهل الكتاب) (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

لم يترك القرآن لأهل الكتاب شاردة ولا واردة إلا بينها وكشف النقاب عنها، سواء كانت في تعاطيهم مع منهجهم الذي ألزمهوه مما أنزل عليهم من (التوراة والإنجيل)، أو من المنهج الذي دعوا إليه، وقد جاء مصدقا لما معهم، وقد أخذ عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به وينصرونه .

فبعد أن أتى على أوصافهم وأصنافهم من حيث تفاوتهم في تلقي العلم، بين الرسوخ فيه (الراسخون في العلم)، و من أوتوا العلم من العلماء دون الراسخين (الذين آتيناهم الكتاب)، ومن أوتوا نصيبا من العلم (الذين أوتوا نصيبا الكتاب)، والأميين الجاهلين المفترين (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون).. خاطب القرآن كل فريق من هؤلاء على قدر علمه، ثم ألزمه ما ألزمه من الحجة ودعاه إلى الإيمان.

وقد ذكّر كل فريق منهم بما عنده من العلم، وبصر من لم يبلغه شيئا منه فعرفه ودعاه إلى الرجوع إلى ما لديه من الكتاب، وما أخذ على أنبياءه من العهد؛ وقد كانت دعوته كما ذكرنا لصنف (أهل الكتاب) خلافا (للأميين من العرب) حيث برؤا من الأمية والجهل، بما عندهم من العلم، وكذلك تذكرة لرحم العلم، “فالعلم رحم بين أهله”، وقد كان لزاما عليهم أن يكونوا أول مؤمن به، فصاروا أول كافر به.. فعاتبهم بقولهيَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)” (البقرة).

وقد أثنى القرآن على فريق الراسخين في العلم، إذ آمنوا بما جاءهم من الحق، وقد علموا أنه من عند اللهلَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)” (النساء)، كما أثنى على الذين علموا النبي بأوصافه وعلاماته التي عندهم في التوراة، فعرفوه كما عرفوا أبناءهم فآمنوا به كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار..  كما ذم الفريق الآخر (الذين أوتوا نصيبا من الكتاب)، إذ حالفوا المشركين ضد دعوة الإسلام، وكانوا ردءا لأهل الكفر على أهل الإيمان “ويقولون للذي كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا” فاستحقوا اللعنة والطرد، بما اضطرهم إليه حسدهم للعرب أن كان النبي الخاتم من نسلهم.. وما كان لهم أن يفعلوا ذلك وقد أكرمهم الله بالنبوة حينا من الدهر، ثم “الله أعلم حيث يجعل رسالته”.

وقد ذم الله هذه النفوس الحاسدة المبغضة التي تحاول أن تحول بين رحمة الله وبين خلقه، وكأن لهم وصاية على رحمته “حاشا لله”، أو كأن الله قد قطع لهم عهدا أن يجعل النبوة في نسلهم إلى يوم القيامة، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا”[النساء (54)].

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.”[البقرة (109)].

وقد وصف القرآن فريقا من أهل الكتاب بالكفر، منهم الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا بنبي آخر الزمان، ثم نكصوا على أعقابهم وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.”[البقرة (89)]، كما وصف كذلك الذين ادعوا لله ولدا (تعالى الله)وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” [التوبة(31)].

وهنا نلاحظ القرآن يعلمنا درسا عقديا، أن نفرق بين مقام الدعوة والجدال بالتي هي أحسن، وبين مقام الوصف لأجل العقيدة؛ فبرغم لغة الإدناء والتقريب في الدعوة ب(أهل الكتاب)، وعدم الغلو، والدعوة إلى الإيمان بما جاء مصدقا لما معهم، إلا أن القرآن لم يتوان أن يصف فريقا منهم بالكفر حال إحقاق الحق وإبطال الباطل، وحين أصروا واستكبروا وأعرضوا عن دعوة الحق، فلا مجال هنا للمداهنة، ولا الإدناء ولا المجاملة.

وهذا درس لأتباعه حين ينهجوا هذا التدرج في مقامات الدعوة، واستمالة الخصم والمحاور، على ألا يحيد بنا ذلك أو يصرفنا، أو يدفعنا أن نداهن في العقيدة كمن يصف البعض الآن (اهل الكتاب) بأنهم مؤمنين، أو أتباع عقيدة ، أو أصحاب رسل.. وقد تبرأ القرآن منهم في ذلك حين نفى عنهم الإيمان حتى بما عندهم، فقالقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.”[المائدة(68)].

أما قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ في التي هي أحسن ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها لا إله إلا الله، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها الكفُّ عنهم إِذا بذلوا الجزية، فان أبَواْ قوتِلوا، قاله مجاهد. والثالث: أنها القرآن والدّعاء إلى الله تعالى بالآيات والحُجج. قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم الذين نصبوا الحرب وأبَواْ أن يؤدُّوا الجزية، فجادِلوا هؤلاء بالسيف حتى يُسْلِموا أو يُعطوا الجزية وَقُولُوا لِمَن أدَّى الجزية منهم إِذا أخبركم بشيء ممَّا في كتبهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية. ((زاد المسيرـ ابن الجوزي)).

هذا التوصيف الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح، دون تخليط أو نقص أو زيادة في أمر العقيدة، ودون أن يعطي شيئا من الدنية في الدين حين دعوة طرف للإيمان.. وقد علم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك، حين أراد المشركون أن يدعوه إلى أنصاف الحلول التي نركن إليها، أو الجمع بين الحق والباطل، فقالوا نعبد إلهك عاما وتعبد آلهتنا عاما .. فنزل القرآن بقوله قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.”[الكافرون(6)].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى