تداعيات تصلب رأي الأستاذ العقاد

محمود حسن | ناقد وشاعر مصري

كانت اللغة اليومية التي ضمنها رائد مدرسة الشعر الحر صلاح عبد الصبور ؛ شَقَّا لرافد جديد يصب في نهر الشعرية العربية ، ولا شك أن البداياتِ تكون في شكلها الأوليِّ ، الذي بالتأكيد سوف تطرأ عليه تشكيلات و نماذج أكثر تطورا ، ربما تتجاوزه ، لكن تظل شعلة البداية منحوتة وهي في كف حاملها الأول على جدارية الأولمبياد الأدبي ( إن جاز التعبير )

وكان تأثير هذه اللغة اليومية ل عبد الصبور وردَّة فعل العقاد عليها تماما كتأثير القنابل العنقودية ، التي تنتقل من شكل إلى شكل

ولو عرضنا لنموذج من هذه اللغة لعبد الصبور مثلا يقول :

يا صاحبي، إني حزين
طلع الصباح، فما ابتسمتُ، ولم ينر وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيّامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ
فشربتُ شاياً في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزّع بين كفي والصديق

حين عُرض شعر عبد الصبور على العقاد أحاله للجنة النثر ، ليس لأنه تخلص من الشكل الخليلي في صورته الكلاسيكية وحسب ، ولكن لأنه يحمل لغة الشارع اليومية ، ومن عجب أن العقاد كان يطالب بهذه اللغة اليومية في تقيلده و ” تأثره الشديد بدعوة وليام وردز ورث الشعرية إلى إستخدام لغة الحياة اليومية وإلى إيمان العقاد بتغليب المعنى الشعرى على أغراض القصيدة الأخرى.. وكذلك تأثره الشديد بمقدمة ديوان “الأغانى الشعبية” لوردز ورث ؟ كما ذكرت هيام الخولي في كتابها مفهوم الشعر والشاعر ؟ “

كانت القنبلة الأولى من هذه القنابل العنقودية :

هي ما فعله شطرٌ كامل من شعراء السبعينات ، على خلاف عبد الصبور وجيله الستيني ؛ فقد تمسكوا بقصيدة الشعر الحر تمسكا كبيرا ، لكنهم شطَّوا بعيدا عن استخدام اللغة اليومية ، ونزعوا إلى التغريب والإبهام والإلغاز ، وقد ذكرت هذا في أكثر من موضع ومقال منشور ، فتحملوا جريمة انصراف الناس عن الشعر ، وقد يجدر بنا هنا أن نستخدم تعبير حسام عقل حين قال ” عاقبهم الجمهور وانصرف عن الشعر “

وهنا لابد من نقطة نظام ” فلقد استخدم عبد الصبور أعلى طبقات اللغة تعبيرا وفخامة ومعايشة ومنطقا وإدهاشا دون مباشرة ولاتعمية في مسرحه الشعري وخصوصا الحلاج و الأميرة تنتظر “
على أن شطر السبعينيين الآخر خطا بالقصيدة العربية خطوات بعيدة كما فعل حسن طلب مثلا و محمد محمد الشهاوي وغيرهما ، لكن ظلَّ هذا الشطر في ظل انصراف الناس عن الشعر يرسم فوق الماء ، إلى أن آزره شعراء الثمانينات وأخذ بيده وأعاد الجمهور إلى الشعر فعاد إليهم وإلي هذا الشطر من شعراء السبيعينات

ولأن القنبلة كانت عنقودية ، فقد نتج عنها قنبلة أخرى ، وهي هذه القنبلة التي أطلقها شعراء ما يسمى بقصيدة النثر ، فلقد ملك شعراء التفعيلة الموسيقى الخارجية ، المتطورة من بحور الخليل غير منبتِّين بالكُليَّة عن أوزان الشعر العربي ، وكان هذا بمثابة التطور الطبيعي ، بَيْدَ أن شعراء ما ُسمى بقصيدة النثر ؛ لم يحملوا معهم الموسيقى الخارجية ، وإن اقتنعوا وحاولوا أن يقنعوا المتلقي أن إنتاجهم يحمل بين طياته الموسيقى الداخلية ( وقد صدق أقلُّهم ) ، فلم يكن أمامهم في ظل غياب الموسيقى ونثرية اللغة إلا اللجوء إلي التعمية والطلسمة ، حتى ربما عُمَّت القصيدة على صاحبها ، وربما سأل نفسه ماذا يقصد بما كتب ؟ ولم يجد إجابة على سؤاله ، بل ودارت المطابع لتقذف إلى السوق حمما من هذه المؤلفات ، وانحازت كل الدوريات تقريبا إليها ، لا عن ثقة في منتجها ولكن لأنها كانت ” الموضة “

ليس هذا فحسب ، بل صدَّر كتُّاب ما سُميَّ بقصيدة النثر خطابا هجوميا يتهم المتلقي بعدم قدرته على فهم ما أسموه بالحداثة ، والأغرب أن بعض جمهور المتلقين صدَّق هذا عن نفسه ، والأشد غرابة أن مبدعين كبارا تنحوا عن الساحة كتابة وإبداعا ونشرا وتفاعلا وصدقوا أن زمان القصيدة العربية بأطرها الكلاسيكية والتفعيلة قد اندثرت ودَلُّوها على مدافن الألفاظ على حد تعبير الجاحظ ، إلى أن جاء شعراء التسعينات وما بعدهم فقدموا قصيدة عربية باذخة في إطارها الكلاسيكي والتفعيلي ، لم تتحجر لغتها ، ولا استنسخت جمود الماضي ، ولا أغرقت في المباشرة ، ولا تزلفت الغموض والتعمية ، فعاد شعراء ما سُمي بقصيدة النثر إلى حيث يقدمون منتجا تخلى عن الموسيقى غالبا لكنه لم يتخل عن الصورة والمعنى البكر الجديد المعاصر والمحايث والمدهش في غالبه ، كي لا تزيحه القصيدة العربية الكلاسيكية الحديثة إلى حيث لا جمهور ولا عودة ، وقد نجح في ذلك كثير منهم .

هذا وسنظل نقول إنَّ تصارع الأشكال الأدبية وتجاوها وتزاوجها ؛ هو الطريق الوحيد إلى التطور والبقاء والجودة ، وأنه كلما اتسعت ثقافة الناقد وأفقه المعرفي ؛ زاد تصالحه مع كل الأشكال الأدبية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى