وبضدها تتميز الأشياء
رضا راشد | الأزهر الشريف
(حوار أجريته مع نفسي بعدما كنت تعرضت لمحنة كشفت لي بين الصديق الحميم والصاحب المزيف)
رأيتها حزينة، أسيفة، كئيبة، قد اغرورقت بالدموع عيونها، وتيبست من الحزن جلودها، وتقطبت أساريرها، وغاض ماء السرور من وجهها، فقلت: مالك؟
قالت (وكأنها تستنكر السؤال): وكأنك لا تعلم ما فعل فلان وفلان وفلان ،هؤلاء الذين كنت أستأنس بهم من وحشة وآلفهم من غربة، وكانوا في عينى: الأب بعد الأب أو الأخ بعد الأخ، حتى إذا كنت في بيداء من الأحداث مقفرة، قد تاه عني فيها الدليل وضل عني بها سواء السيبل، نظرت إليهم أستبصر بعيونهم ما يلوح من مخاطر الأهوال وأسّمع بآذانهم ما يدب من بعيد من نذر الشرور، ولكن..وا أسفاه!! ما وجدت لهم أثرا ولا أبصرت لهم رسما ؛إذ ولوا عني مدبرين ،وفروا عني هاربين، ولاذوا من الجبن بحصن حصين، أفلا يستحق ذلك ما أنا فيه من الحزن ؟!
هكذا قالت لي نفسي
فقلت لها: لا ، بل ما يستحق منك إلا السعادة والشكر .
قالت: (وقد استبد بها الذهول واعترتها شكوك في سلامة عقلى) :ماذا تقول؟!
قلت لها يا نفس: لا تقنعين؟! كأنك لا تفتئين تطمعين؟! لقد حيل بينك وبين القناعة بما جبلت عليه من الحرص والطمع .
قالت: وما ذاك ؟
قلت: لئن كنت قد ابتليت بأولئك فلقد أنعم عليك بهؤلاء الذين اشتد بهم في غمرة الأحداث عضدك :ففكرت بعقولهم، ونظرت بأبصارهم، وسمعت بآذانهم، وسعيت بأقدامهم، وتناولت بأيديهم، وفتحت لك جيوبهم لتأخذى ما شئت منهم بلا إيذان ولا استئذان ،أفليس كذلك؟
قالت: بلى ولهم في عنقي جميل لا ينسى، ومعروف لا يبلى، وشكر أبد الدهر لا يحجد ولا يفنى .
قلت :إذن فلم الغضب والحزن؟! ، إن نعمة الله عليك في أولئك الذين ابتليت بهم لا تقل عن نعمة الله عليك فيمن بصحبتهم نعمت ومن معين فضلهم غرفت .
قالت: وكيف ؟
قلت: إن إساءة أولئك وتخليهم عن نصرتك كانت السبب في استشعارك جميل هؤلاء الذين أحسنوا إليك، ولو كان كلهم إليك محسنا ولك مناصرا لما كان هذا الشعور منك بالإحسان، فشخصت إلي ببصرها متأملة ما أقول، فواصلت:
هل يبرز إحسان المحسن إلا بإساءة المسيء؟
وهل تعرف قيمة النور إلا بعد استشعار وحشة الظلام؟
وهل يزداد نعيم الجنة قيمة إلا مقرونا بجحيم النار ؟
أولست ترين القرآن الكريم دائما ما يقرن نعيم الجنان بجحيم النيران؛ ليكون هذا الاقتران مما يزيد النعيم حسنا إلى حسنه ويزيد الجحيم قبحا إلى قبحه ؟أفليس كذلك؟ قالت :بلى .
قلت :ما تقولين في اللحم ؟
قالت: سيد الطعام .
قلت: فهل يستوى طعم اللحم في فم الغني بطعم اللحم في فم الفقير؟
قالت :لا ، لا يستويان طعما ، فشتان شتان ما بينهما .
قلت: فهل تغيرت خصائص اللحم في الحالتين؟ أوليس هو هو؟ فما السبب؟
قالت: ضاع طعم اللحم في فم الغني بما سبقه أو قارنه أو وليه من شهي الطعام، أما الفقير فكانت خشونة ما يأكله من طعام سابق أو تال له مما يشعره بلذة اللحم ، فكأن اللحم مدين بالشكر لما خشن من طعام الفقير ، فلولاه لما شعر الفقير بلذته .
قلت: وكذلك أنت : مدينة بالشكر لمن أساء إليك شكرا لا يقل عن شكرك لمن أحسن إليك؛ فلولا هم في إساءتهم ما عرفت للإحسان إليك قيمة ولا أبصرت له أثرا ، وكأن الله عز وجل جعل القبح من وسائل الزينة التي يتزيى الجمال بها ؛ إذا لا يتأنق الجمال في أبهى صوره وأحلى حلة إلا مكتنفا بمظاهر القبح.
قالت :إي والله، ما أصح كلامك!! ولكن كيف غاب عنى هذا وهو ظاهر بيّن، تفوح عطر معانيه من كلام الشاعر الحكيم القديم إذ قال:
الوجه مثل الصبح مبـــيض
والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضــد
قلت: إنها الغفلة يا صديقتى، ووالله ما قلت لك حرفا ولا أظهرت لك معنى مما سبق إلا ومن معين هذين البيتين أخذ، ومن معدنهما استنبط، لكن الشاعر القديم قد استطاع بحكمته وبلاغته أن يوجز هذه المعاني الكثيرة في تلك المباني (الألفاظ) القليلة، ما لم أستطعه أنا لعيي وعجزى وركاكة أسلوبي وتهدل عبارتي ، لكن حسبي أنى من عطرهم أستنشي (أي أشم) ومن بئرهم أمتح (أي أستقي وأغترف) .
وهنا:
لاذت نفسي بالسكون راضية، ولاحت على أساريرها علائم السرور والفرح بما كان كيف كان .
وحينئذ :تنفست أنا الصعداء وقلت:
أخيــــرا يا نفس ابتسمت ورضيت وما كان لك ذلك بخلق من قبل، ولكن !! لعل ذلك يدوم إن شاء الله تعالى.