تحليل قصيدة (شكرا أبي) للشاعر د.محمد أمين

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا

 

(شكراً أبي)

لمْ تنتظرْ حتى يحدِّثك العنبْ
لمْ تنتظرْ صيفاً لينضج داخلي
طفلٌ رقيقٌ كاللُّعبْ
ومضيتَ توغلُ في الرحيلِ
كأنَّ قلبكَ ليس قلبكَ
كيف أفهم كل هذا الموتِ:
وجهك والصباحُ
وصوتكَ المنساب نهراً من حنانْ
عيناك والشجر الذي في ظلِّه تغفو القصائد في أمانْ
كفَّاك ماتتْ
كيف بعد اليوم تحملني الجنانْ
قدماك ماتتْ
كيف أنهضُ للسماء إذا دعاني النايُ
واختنق الكمانْ
هل متَّ كُلَّكَ ؟؟؟!
كيف أفهم كلَّ هذا الموتِ
قل لي
كيف أغفرُ للحياةِ
إذا دَعَتنِي للحياةِ؟؟
وكيف أخبر إخوتي
أنَّ العصافيرَ التي كانت تحج إلى الشجرْ
صارت ثماراً للقدرْ !

شكراً أبي
شكراً لأنّ الصيف علَّقَني على باب البكاءْ
ومضيتَ أنتَ كأنني
لم أختنق يوم الوداع من النداءْ
شكراً لأنَّ الحزنَ يجري في عروقي كالدماءْ

الليلُ هاجمني
ووجهكُ صامتٌ
والرعبُ مزقني
وقلبكُ صامتٌ
والموتُ طوقني
وصوتكُ صامتٌ
قل لي بربك
كيف أغفر يا أبي
بعد الرحيل لهؤلاءْ !؟

عدْ كي أحلِّق في السماء مع القمرْ
أنا في غيابك لستُ أكثر من بشرْ !
عد مرةً
عد لحظةً
لو في الحقيقةِ عدْ
وعد لو في الصورْ
عد كي أعودَ إلى النجوم قصيدةً
أنا في غيابك لست أكثر من حجرْ !

شكراً أبي
شكراً لأنك لن تعودَ
ولن أكفَّ عن الغضبْ
سأظل أرفض كالحصانِ
وداخلي
قلبٌ يمزقه العتبْ
عد مرة كي أستقيل من التعبْ !

كامل الوجع…
قوموا إلى خيام بكائكم !

…………………………………

تحليل القصيدة

(الحب والموت) كل منهما سيف يخترق قشرة الإنسان بضربة واحدة ليقسمه إلى نصفين .
وهنا شاعر مقسوم على نفسه بسيف الموت. وبدلا من أن يحاول الاتحاد والتماسك تراه يوسع حجم الفراغ بين شقيه.

شكراً أبي
لمْ تنتظرْ حتى يحدِّثك العنبْ
لمْ تنتظرْ صيفاً لينضج داخلي
طفلٌ رقيقٌ كاللُّعبْ
ومضيتَ توغلُ في الرحيلِ
كأنَّ قلبكَ ليس قلبكَ

عندما يموت الأب أو أي قريب من القلب تلطف لهجة الحديث عنه.وتلين نبرة الصوت عند ذكره خشية إيلامه من اللهجة الحادة . أو ربما لمحاولة كسب وده بعد موته. بعد أن أدركنا كم كانت تعني لنا حياته التي فارقتنا.
لكن الشاعر يبدأ قصيدته بلهجة عتاب مدمرة . يلوم فيها الأب الذي أوغل في الرحيل، ولم يكّلف نفسه أن ينتظر.

شكراً أبي
هذه ال ” شكرا ” التي تلوم الأب تعني ما يشبه مخاصمته أو تحميله مسؤولية قرار الموت .. وسوف تؤدي إلى العلوق بطقس رثائي جديد يحمل فيه الشاعر نفسه مزيدا من الألم جريرة ذنب قسوة نبرته مع أبيه المتوفى آن هو محتاج لعطفه.
فيجمع على نفسه مرارة قسوة الموت مع مرارة ذنبه الذي يرتكبه في العتاب.

لمْ تنتظرْ حتى يحدِّثك العنبْ
لمْ تنتظرْ صيفاً لينضج داخلي
طفلٌ رقيقٌ كاللُّعبْ
ومضيتَ توغلُ في الرحيلِ
كأنَّ قلبكَ ليس قلبكَ

ما كان الابن ليقبل رحيل أبيه حتى ولو انتظر الأب نضج ابنه عنباً يحدِّث عن نفسه.
وما كان ليقبل رحيله لو انتظره صيفا آخر ريثما ينضج الطفل في داخله نضجه الموعود.
ولكن العتاب يمنحه فرصة الاستقواء الذي يحميه من الانهيار . فكان لا بد له من حجة يخترعها ليحق له العتاب.

كأنَّ قلبكَ ليس قلبكَ

ليس متوقعا من قلب الأب أن يجرح شعور ابنه بموته. فكيف استطاع أن يفعل؟
ذلك ما لم يتمكن الشاعر من فهمه. كيف يفهم كل هذا الموت ؟ ” كل هذا الموت ” عبارة ينتشلها الشاعر من أجزاء وعيه الآخذ في الانهيار وهو يواجه الموت بكثافته التي تجعله حقيقة ثاقبة لا يمكن الإغضاء عنها.

كيف أفهم كل هذا الموتِ:
وجهك والصباحُ
وصوتكَ المنساب نهراً من حنانْ
عيناك والشجر الذي في ظلِّه تغفو القصائد في أمانْ

كل هذا الموت يدفع الشاعر إلى إعادة النظر في إدراكه للموجودات التي كانت ترافق حضور الأب الحي. فهل بقيت كما كانت ؟ أم أنها ماتت معه لأنها من مستلزمات وجوده حيا وميتا ؟
يعيد الشاعر النظر فيها فيدرك أنها ماتت أيضا.
هنا يحول الشاعر مفردات الواقع إلى كائنات شبحية بعملية إبداعية نفسية تنعكس فنيا على النص بمحاولته ملامسة الأشياء كطفل مازال يحبو ليلمس ما يدهشه من الأشياء المحيطة في محاولة اكتشافها وإدراكها .

كفَّاك ماتتْ
كيف بعد اليوم تحملني الجنانْ
قدماك ماتتْ
كيف أنهضُ للسماء إذا دعاني النايُ
واختنق الكمانْ
هل متَّ كُلَّكَ ؟؟؟!
كيف أفهم كلَّ هذا الموتِ
قل لي

قد تمثّل العودة إلى (الإدراك الطفولي) أمام تفسير طبيعة الموت الغامضة، نكوصا إنسانيا نفسيا يحتاجه الإنسان ليختبئ في لباس براءته أمام خطر مخيف لا يجيد التعامل معه، استدرارا لشفقة محتملة من الموت الذي هو مصدر التهديد .
لذا فهو الآن وقد فشل في رد الخطر يشعر بتلك الحيرة التي سببت عدم قدرته على التوازن. أو على متابعة الحياة كما كانت من قبل.
وهو من جهة أخرى قد فقد رغبته في متابعة الحياة .بعد أن جعلته الصدمة يدرك حجم الخسارة التي مُني بها.

كيف أغفرُ للحياةِ
إذا دَعَتنِي للحياةِ؟؟
وكيف أخبر إخوتي
أنَّ العصافيرَ التي كانت تحج إلى الشجرْ
صارت ثماراً للقدرْ !

أمام مسؤوليته في مواساة أخوته يبحث الشاعر عن طريقة مقنعة يقنع فيها أخوته بتقبل القدر .
وهو يسقط ذلك الخطف لأبيه من قبل الموت على الصيد الذي يمارسه الموت على العصافير التي تصير ثمارا للقدر . بعد أن كانت تحج إلى الشجر تطير تزقزق تصنع أعشاشها.

شكراً أبي
شكراً لأنّ الصيف علَّقَني على باب البكاءْ
ومضيتَ أنتَ كأنني
لم أختنق يوم الوداع من النداءْ
شكراً لأنَّ الحزنَ يجري في عروقي كالدماءْ

كان ينبغي على الأب أن يستجيب لنداء ابنه ويعزف عن الرحيل. ولكنه لم يستجب ومضى . وترك ابنه معلقا على باب البكاء ليقضي هذا الصيف.
يمتلك الشاعر ذلك الأسلوب الذي يمكنه من تشكيل الدهشة الشعرية عبر قلب موازين عناصر الصورة الشعرية . وهو أسلوب مرتبط في جذوره مع بدايات الشعر الحداثي التي انتفض فيها منطق الصورة الشعرية على يدي الشاعر أدونيس عندما بدأ يتحرر من سلطة المعلومة الدينية ليستبدلها بالأفكار الأسطورية التي تسمح بالانقلاب على الطقوس المحيطة بفكرة الموت.

وهنا يسمح شاعرنا لنفسه بالاندهاش من الموت بطريقة تحيله إلى طفل معذب غير قادر على الاستيعاب.

الليلُ هاجمني
ووجهكُ صامتٌ
والرعبُ مزقني
وقلبكُ صامتٌ
والموتُ طوقني
وصوتكُ صامتٌ
قل لي بربك
كيف أغفر يا أبي
بعد الرحيل لهؤلاءْ !؟

لم يخرج الشاعر عن عقيدته التي تفرض عليه الرضا بالقدر .ولكنه مع ذلك يطرح السؤال عن كيفية وصوله إلى حالة المغفرة للأشياء التي خذلته بموتها أو بفقدانها . ولا يعني ذلك أنه لن يغفر لها.

عدْ كي أحلِّق في السماء مع القمرْ
أنا في غيابك لستُ أكثر من بشرْ*** !
عد مرةً
عد لحظةً
لو في الحقيقةِ عدْ
وعد لو في الصورْ
عد كي أعودَ إلى النجوم قصيدةً
أنا في غيابك لست أكثر من حجرْ !

يشعر الشاعر بأن الحياة قد توقفت مع فراق أبيه. ويظن أن سعادته وانطلاقه أصبحا مرهونين بعودة الأب . إذ لا شيء يعيده إلى سابق عهده من التحليق في السماء مع القمر سوى عودة الأب .
ولأنه أصبح يعلم حجم ما خسره من الشعور باللامسؤولية . ثقلت عليه نفسه حتى انتبه إلى أنه بدون أبيه أصبح مضطرا لأن يكون مجرد بشر يعاني المسؤولية .
فخفته وانطلاقه في حياة أبيه كانتا تسمحان له بالتحليق. وهو الآن بدونهما بشر / حجر.
وأما قلب ميزان المنطق في تشكيل الصورة الفنية فقد تمثل في جملة ” لو في الحقيقةِ عدْ”.
فهذه ال ” لو ” تعني “على الأقل” .
إن العودة في الحقيقة مستحيلة ولكنها هي أقل ما يمكن أن يعيد الأمور إلى طبيعتها. على الرغم من أن الشاعر ما يلبث أن يتنازل عنها ليقبل بعودة الأب ولو في الصور.

عد مرةً
عد لحظةً
لو في الحقيقةِ عدْ
وعد لو في الصورْ
عد كي أعودَ إلى النجوم قصيدةً
أنا في غيابك لست أكثر من حجرْ !

إن خلق سبب للصراع مع الأب المتوفى يساعد على خلق سبب يحتاجه الشاعر كي يظل غاضبا . ولأنه لن يكف عن الغضب فسوف يبقى قويا كالحصان متنمرا بقوة رفضه .في حين أنه يعلم في داخله العميق أن هذا الافتعال الذي يفتعله ليظل غاضبا وقويا قد أرهقه إلى درجة التمزق .

شكراً أبي
شكراً لأنك لن تعودَ
ولن أكفَّ عن الغضبْ
سأظل أرفض كالحصانِ
وداخلي
قلبٌ يمزقه العتبْ
عد مرة كي أستقيل من التعبْ !

أما الاستقالة من التعب فكفيل بها الله بلطفه ورحمته . وبما يسوقه من أحداث الحياة التي تلهي الإنسان عن حزنه فينسى .
قصيدة مميزة بفنيتها الناضجة عالج فيها الشاعر أكبر قضايا الإنسان في ظاهرة وجوده ( الموت ) ،بشاعرية مفرطة وحساسية عاطفية نادرة .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى