الأستاذ يحيى بن ناصر الحارثي.. شاهد التحولات ومحرك النشاط.. دمعة على رحيله
بقلم: الدكتور محسن الكندي
تتوالى هذه الأيام في محيطنا الاجتماعي ولاية إبراء ماتم الفقد والرحيل، في تراتبية ميلودرامية متسقة لا يفصل أجزاءها فاصل، فما يكاد ينتهي عزاء إلا ويتبعه آخر؛ وكأنا على موعد مع القدر المحتوم مختوما بمناخات ومواسم صيف حارق ومحل قاطع تزداد فيه نفوسنا لهيبا وحزنا فتنقضي آجال رجال ونساء لهم في ذاكرتنا ذكرى وألف ذكرى.. هكذا هي سنة الحياة تطوي حلقاتها فتخلف في نفوسنا كمدا ما بعده كمد.
يبدو أن هذه الحتمية وهذا القضاء في كنههما معادلة توافقية متساوية الأطراف على الأقل في شدة التأثير وجنائزية المشهد بل في سطوة المفتقد، وما علينا إلا الوقوف أمامه مليا بخشوع متناه موقنين بقدرية الموت وسطوته كونه هادم اللذات ومفرق الجماعات.وَما علينا إزاؤه سوى التجلد متسين بروح الإيمان المطلق بالقضاء والقدر والدعوة لهم بالمغفرة ولأهلهم بالصبر بالسلوان.
كان متوفى اليوم الراحل عن عالمنا رجل من أنبل الرجال وأنقاهم وأكثرهم وعيا واستنارة وفهما وإدراكا لقيم المجتمع ومسارات الزمن.. إنه الأستاذ المربي المثقف القارىء سليل الأكابر الكرام الأستاذ يحيى بن ناصر بن سالم الحارثي.. الذي كان من رجال أواخر المرحلة السبعينية الذين عرفناهم في مدرسة المتنبي التاريخية وما جاء بعدها من مسميات المدارس، فشخصه يمثل عماد مرحلة وذاكرة جيل بأسره يمكن أن نطلق عليه تجوزا جيل البدايات وارهاصات التنوير.، وهو بشخصيته الكارزمية وبهدوئه الجم وترفعه عن سفاسف الأمور جزء من منظومة قيمية تربوية يدخل فيها جل أستاذتنا القدامى الذين تلقينا العلم عليهم.
وهو بأخلاقه الفذة ورحابة صدره وبشاشته ووعيه المبكر بقيم المجتمع ومعرفة أقدار الناس ومنازلهم يمثل نمؤذجا ومثالا لما كانت يعتمل في نفوسنا وتهفو إليه قلوبنا فنحيطهم بالعلاقات الانسانية الرحبة التي لم تنقطع طيلة أربعة عقود متوالية،إذ كانت خطواتنا متصلة نحو سلالم مكتبته بسؤال الإطمئنان عليه والارتواء من معين فكره ووعيه والاستفادة من مخزون علمه وتجربته في التاريخ الاجتماعي والثقافة المحلية والأنساب،وتاريخ الأحداث ومحفوظات القصائد التي نظمها شعراء الولاية، فالرجل يملك معرفة متجذرة تضرب بجذورها في مرجعيات والده الشيخ ناصر بن سالم مضرب المثال في الكرم والسخاء ومقصد الناس في الزمن الصعب وإليه كما يقال تضرب أكباد الإبل فيكسوهم بكرمه وعطائه، وقد حدثني والدي رحمه الله عن دوره الاجتماعي وعن مواقف تزدهي بها حياته فخرا وعلوا وبسطة في العيش والرفعة في المقام.
وقد استقى الأستاذ يحيى الحارثي من تلك الروافد جميعها وتغذى بها بمعية إخوته الكرام وأقاربه وأبناء عمومته فأصبحت رسوم تسقيهم وتوجههم وتوجهه هو كذلك فما تكاد تلقاه إلا مستبشرا أريحيا يحيطك بعذب الحديث ونقاء الكلمة ورزانة الخطاب.. ويسعدك بجديد الأخبار وحديث المسرات. فيحدثك بتلقائية عن حراكه ونشاطه وما ال إليه المجتمع والعالم بلغة متسلسلة سلسة لا تكلف فيها ولا تصنع، فقد كان متابعا لمصادر البث الثقافي العربية يقرأ الصحف والمجلات والكتب ويبيعها في مكتبته الحديثة التي أسسها بعد تقاعده حتى لا يغيب القلم والكتاب عن ناظريه.
أما جانبه العلمي فقد استقى مَنهله العذب وتكوينه الأول كما رواه لي من الحضرة النزوية ممثلا في جامعها الشهير حيث شد رحاله إليه بمعيه أحد أقاربه الشيخ يعقوب بن سيف الاغبري فنقش في عرصاته أبجديات الحرف.وتعرف على مشايخه الكبار فحفظ بتوجيه منهم ملحة الأعراب و الأجر مية والمعلقات وشرح ابن عقيل وعرف نسخ الكتب..وقراءة المخطوطات وتأثر بزملائه الذين عرفهم وأساتذته الذين تتلمذ على حلقاتهم شأن الشيخ الاسحاقي والشيخ إبراهيم الكندي وأخيه النحوي الكبير الشيخ يحيى بن أحمد الكندي والمعلم مرزوق وغيرهم ولكن هذه المرحلة لم تدم طويلا في حياته وكم تمنى أن تطول فسرعان ما عاد منها إلى وطنه والتحق بوظائف الخدمة المدنية واختار التعليم النظامي الذي رسخت فيها أقدامه فكان ألمعيا بسطت سيرته التفصيلية كتابات ومقالات أخرى تناولت سيرته وقدمته بتوسع.
الأستاذ يحيى رجل النشاط الشبابي والرياضي شهد انبثاق المرحلة التحويلة في ولاية ابراء وعمان كلها معروفا لدى الأجيال المحلية المتلاحقة بولايتنا وكل من أم مدرسة المتنبي إبان مجد بدايتها وكل من عرف نادي إبراء في بداية تشكله يدرك كيف كان هذا الرجل نشيطا بل والمحرك الأول للنشاط. وخاصة في تفعيل مباريات الفرق الرياضية فكم سطع اسمه في مقام الإنجازات والنجاحات والأيام الزاهية السعيدة.
لهذا لا تكاد تخطوه عين قرية من قرى الولاية وما حولها إلا وتعرفه وله في ذاكرة أبنائها ذكرى تلمذة وزمالة واستفادة واستشارة وموقف لا تنسى.. لأنه كان الأستاذ والمدير والموجه وصاحب المكتبة الحديثة..وقبل ذلك الكاتب البارع المسجل الدقيق لمرجعيات المجتمع الثقافية،والأحداث الفارقة، وقد زامل في بداية عهد أساتذة المتنبي الذين قدموا من فلسطين والأردن ومصر ولبنان فتفتح عقله على ثقافتهم الحديثة، فتأثر بوعيهم السياسي والثقافي وكم حدثني مرارا على علاقته بأساتذتنا من مثل الأستاذ حسن النتشه وعبد الباقي شاور ومحمود المصري وعبدالعال ومحمود البيلي وغيرهم وكيف كان يتبادل معهم الكتب والروايات والقصص والدواوين، إذ نشأ شغوفا بالقراءة محبا لها، وكان حافظا دقيق الرواية.
يتسم بالثقافة الموسوعية والوعي الشامل للتخصصات الانسانية.وكم مرة حدثني عن قراءاته المبكرة ومتابعته لمقالات الكاتب المصري محمد حسنين هيكل و لبرامج الإذاعات وخاصة البرنامج الشهير قول على قول لحسن الكرمي وغيره من البرامج الجماهيرية النخبوية، كما تابع إذاعة صوت العرب ومذيعها الشهير أحمد سعيد، ونشرات البي بي سي ومونتكارلو الدولية وما كانت هذه الإذاعات ووسائل البث تبثه من أهازيج الثورات العربية وحركات التحرر في فترة المد القومي الهادر من الخليج إلى المحيط مستظلة بخطابات عبدالناصر ومواقفه اللاهبة للجماهير وطلائع الشباب العربي التائق للعمل والتنمية والنضال وتحرير فلسطين والارتقاء بالتفكير نحو الوعي بالديمقراطية والكرامة ونبذ الدخيل المستعمر، وقد زاد ذلك شغفه بالسفر وارتياد الافاق، وقد زار مصر والشام ودول شتى في وقت مبكر فنهل من ثقافتها ما كون شخصيته العلمية،وجعله اسما ثقافيا في محيطنا الابرائي..
ها هو اليوم يترجل من على صهوات الحياة ليلقي ربه راضيا مرضيا تاركا وراءه سمعة طيبة واسما مرتبطا بالكتاب والقلم والمعرفة والنشاط في وقت عزت فيه مثل هذه التوجهات النبيلة..كما ترك جيلا يحفظون له حق التلمذة والدعاء له في ظهر الغيب بالرحمة والمغفرة، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته.