قراءة في ديوان ” تلك السيدة وذلك البيت ” للشاعر عبد الباسط إغبارية

رائد محمد الحواري | فلسطين

في هذا الكتاب نجد مجموعة أشكال من الشعر، منها الموزون، ومنها المقفى، ومنها النثر، ومنها من جاء على على شكل الهايكو، وآخر رباعيات، وهذا التعدد في أشكال وأنواع الشعر يشير إلى قدرة الشاعر على الكتابة في أكثر من نوع شعري، وعلى تمرده/ عدم التزامه بشكل محدد للقصيدة، بمعنى (نفوره) من الالتزام بشكل النهج/ الخط، لكن الجوهر/ المضمون/ الفكرة/ المبدأ بالنسبه له لا يتغير أو يتبدل.

وهذا يأخذنا إلى أن العصر (يُفقد) الكاتب/ الأديب شيئا من التمسك بالشكل، وعلى عدم (قناعته/ امتلائه) بشكل محدد/ واحد، وبما أن الشاعر قدم الإنسان/ “تلك المرأة” على المكان/” ذلك البيت” فهذا يشير إلى حاجته/ رغبته إلى ما هو إنساني ثم يأتي المكان، وهذا ينسجم تماما مع طبيعة الإنسان/ الذكر الذي يحتاج الأنثى وقت الضيق/ الشدة، لتخرجه مما هو فيه، ثم يأتي اهتمامه بالمكان/”ذلك البيت”.

الحاجة ل”تلك السيدة” نجدها في أكثر من قصيدة، منها “لا أشتاق” والتي يكررها الشاعر أكثر من مرة، يقول:

” أنا لا أشتاقك

حتى وإن كنت ملتاعا ومحاصرا بك…

ولا تنقصني الريات البيضاء

لا أشتاقك لأني بارع بالغرق فيك…

وكان الأجدر أن تروعيني بزرقة السماء!

لا أشتاقك مهما طالعتك أناتي…

فأنا صمتي هو النداء

حمامة أنا أسقطها الباز ترقب أن ينشب مخالبه برقبتها، ويجهز عليها

لا أشتاق رغم أني حقول متشققة عطشى

ورغم أني سدود طافحة متعبة ملأى

 لا أشتاق رغم أني غيوم شتاء قاتمة مشبعة ثكلى

ورغم أني محزون وفرح ليس إلا

حمامة ملقاة أسقطها الباز تضرع لسيول السدود أن تجرفها بعيدا بعيدا،” 21.

تكرار الشاعر “لا أشتاقك/ لا أشتاق” يعكس حالة الألم/ الضيق التي يمر بها، وهذا يستدعي وجود مخلص/ منقذ له، فكانت “تلك السيدة” التي خاطبها نافيا اشتياقه لها، لكن ما بين (نفيه للاشتياق) تكمن رغبته الجامحة والملحة لها.

فهو يتماهي معها بأكثر من حالة: “ملتاعا ومحاصرا بك، لأني بارع بالغرق فيك، مهما طالعتك أناتي” وهذا ينفي النفي الذي جاهر به، ويؤكد أنه متماهٍ معها ومتوحد، لهذا جاءت الكاف لتشير إلى إرتباطه بها.

كما أن استخدامه لألفاظ: “ملتاعا، محاصرا، بالغرق، أناتي”  والتي تشير إلى  معاناته/ ألمه، تحمل بين ثناياها (طلب المساعادة/ المعونة) من “تلك السيدة” التي بالتأكيد لن تقف مكتوفة الأيدي وهي صاحبة القلب الكبير تجاه الشاعر الملتاع، المحاصر، الغريق، المتألم.

يتقدم الشاعر أكثر في طلب المساعدة منها لإنقاذه، بعد أن تخلى عن (كاف) تلك السيدة، مما يجعله أكثر وحدة وأكثر تألما: “حقول متشققة، سدود متعبة، غيوم قاتمة/ تكلى” نلاحظ أن الشاعر يستخدم صيغة الجمع وليس المفرد، وهذا يؤكد أن حالته صعبة وقاسية، وليست كما يدعي قولا/ شكلا “لا أشتاقك/ أشتاق”، واللافت أن بعد أن (ابتعدت) كاف “تلك السيدة” تحدث بزخم أكثر عن الألم/ القسوة والتي نجدها في: “متشققة، عطشى، متعبة، قاتمة/ ثكلى، محزون” رغم أن هذه الألفاظ تبدو أقل قسوة من “ملتاعا، محاصرا” إلا أن صيغة التأنيث التي جاءت بها، تحمل بين ثنايها صورة ألم أكبر وأكثر، فألم الأنثى يثير ويستوجب المساعدة أكثر من ألم الذكر، وبما أن هذا الألم جاء بصيغة الجمع، فإنه يؤكد حاجة الشاعر الملحة لإنقاذه مما هو فيه.

وما يؤكد حالة الشاعر الصعبة تشبه نفسه بالحمامة التي أسقطها الباز مرتين، وهذا ينفي عدم حاجته للاشتياق لتك السيدة.

إذن الشاعر يخفي شيئا ويريده في الوقت ذاته، وكأنه يشير إلى مقولة “كل ممنوع مرغوب”، هذا الأمر نجده في “اللامنتمي” التي يقول فيها:

“لأنك كنت قد هطلت من غيمة

فلا تبللك مياه و أمطار

ولأنك القبس من نجمة

لا تحرقك حكم ولا نار

ولأنك نثار صبابة

لا يحنيك ريح ولا إعصار

أنت حفنات من تراب تتمشى

لا أخافك موت ولا أقدار” ص84

عنوان القصيدة يأخذنا إلى العبث، عدم الالتزام، لكن متن القصيدة غير ذلك، فهي تتناول حالة الصمود/ الثبات/ البقاء/ المواجهة/ التحدي، كما أن حالة الصراع التي نجدها في: “هطلت/ تبللك، نجمة/ تحرقك، صبابة/ يحنيك، تراب/ موت” تؤكد على الانتماء، وإلا ما كان هذا الصراع موجودا.

والجميل في هذه القصيدة أنها تتحدث عن (شخص) اللامنتمي، لكن المقصود بها، أو يمكن أخذها/ إسقاطها على الأرض/ الوطن،  فهي تتناسب مع ما يجري على الأرض الفلسطينية، وما استخدم الشاعر للفظ “تراب” إلا إشارة إلى ما يريد أن (يخفيه)، وكإشارة إلى أن المقصود هو الوطن، استخدم الشاعر صيغة المذكر: “لأنك” الذي هو أكثر قدرة على المواجهة وخوض الصراع.   

وفي الرباعيات يقول:

“وأنت أرق من أظافر طفل

تغز بثدي أمه من قماط

وأنت أرهف من أزهار لوز

هفت على فنن في شباط” ص105

اللافت في هذا المقطع الألفاظ الناعمة التي نجدها في: “أرق، طفل، بثدي، أمه، قماط، أرهف، أزهار، لوز، هفت، فنن” والتي تخدم فكرة النعومة المتعقة بصفة المرأة لمخاطبة.

ونلاحظ أن الشاعر يتماهي مع ألفاظ المقطع في البيت الثالث والرابع: “أرهف، أزهار، هفت” فبدا وكأن حالة لتماهي مع الحبيبة/ المرأة جعلته أسير لكلمات تتكون من حرف الهاء الذي يشير إلى ألمه ووله بها،  وكأنه من خلال “الهاء” يستنجد بها، مبديا ما فيه من رغبة بها.

وفي الهايكو يقول:

“المرأة سفينة

لا تخيفها الأعاصير،

وإنما رفقة ربان جبان” ص111

الجميل في هذا المقطع أنه يقدم صورة العاصفة والسفينة التي قرنها بشجاعة المرأة: “سفينة، الأعاصير” ونسب الجبن للذكر/ “الربان”، وإذا ما توقفنا عند عدد الألفاظ المتعلقة بالمرأة نجدها تتفوق كثير، بينما ما هو متعلق بالذكر:”الربان” كلمة واحد “جبان”، وهذا يشير إلى اهتمام الشاعر بالمرأة/ الأنثى وانحيازه لها.

=====

الديوان من منشورات الرعاة للنشر والتوزيع،  رام الله، فلسطين، جسور للنشر والتزويع، عمان الأدرن. الطبعة الأولى 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى