التذمر بين الحب والامتعاض

أ . د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل | أستاذ علم النفس بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر

الشخص المحب شخص متذمر ولكن تذمره غالباً يكون على أرضية من الحب، ورغبة في الإصلاح والتغيير إلى الأفضل، فهو ليس تذمر من أجل التذمر، وإنما هو صيحة من أجل إصلاح الحال في إطار من الحكمة والموعظة الحسنة.

تخيل أنت وأسرتك في مطعم، ثم قدم لك النادل ما طلبته من أطعمة، وتبين لك أنها باردة، وتحتاج إلى تسخين، هل ستأكل تلك الأطعمة على حالتها الباردة أم أنك ستطلب تسخينها؟ وفي حالة الرفض ما هي طبيعة أو شكل هذا الرفض؟

نحن في الحقيقة عندما نجيب على هذا السؤال المركب سنكون أمام تصنيفات ثلاثة للبشر في مثل هذه المواقف التي تحتاج منا إلى تصحيح، وهي على النحو التالي:

  • هناك من يأكل الطعام كما هو، على حالته الباردة، على الرغم أنه يحتاج إلى تسخين تجنبا لحدوث أي مشاكل، وهذا النمط يمثل شريحة كبيرة من البشر.
  • وهناك من ينادي المسؤول، ويقول له بأدب واحترام، معترفاً في قرارة نفسه أننا جميعاً معرضون إلى أن نخطأ “لو سمحت ممكن تسخين الطعام فهو بارد” فهذا هو المحب المتذمر.
  • أم الصنف الثالث فنجده ينادي على المسؤول، ويقول له في غضب وامتعاض، وسخط، وعلو واستعلاء وتكبر منكراً حقيقة أن كل بني آدم خطأ، وخير الخطائين التوابون، “كيف تجرؤ يا هذا أن تقدم لي هذا الطعام بهذه الصورة وتلك الكيفية” هذا هو المتذمر العدواني الذي يتذمر لذاته، ولنصرة ذاته ولو على حساب الأخر.

   هذا الصنف الأخير يريد بالفعل تصحيح الوضع المغلوط – شأنه شأن الصنف الأخر المحب الذي يريد الإصلاح وتصحيح الأمر- ولكن للآسف بشكل تذمري وليس على أرضية من الحب سوى فقط حب ذاته متناسياً أن هناك أخر يجب أن يراعيه، ويراعي مشاعره، وانسانيته، فبدلاً من هذا نجده يسب ويشتم ويلعن بصوت عالي وجهوري، فلا شك أن الأنا المحبة فقط لذاتها تجد في هذا متعة واستمتاع بأنها تظهر الأخر بأنه مخطأ، فهي تسعى لتحقيق انتصار لذاتها، وليس انتصار للحقيقة، وما يجب أن يكون.

   يعد التذمر من الاستراتيجيات المفضلة لدى البعض من الناس كما هو واضح في المثال السابق، والذي بمقتضاه يشعر صاحبه بالتفوق والأفضلية والعلو والقوة سواء كان تذمر معلن ومسموع أم خفي وغير مسموع يكمن داخل عقل الإنسان، فلا فرق بينهما فكلاهما يوديان نفس الغرض وهو الإحساس بالتفوق والأفضلية على الأخر الذي يبدو غالباً في مخيلة وتصور “الأنا المتذمرة” بوصفه عدو أو شيطان رجيم.

   وجدير بالذكر أن هناك من يجدون أنفسهم فقد في هذا النوع من التذمر الذي يكون في ظاهره دعوة لإصلاح أوضاع تنطوي على أخطاء إلا أنه في حقيقة الأمر هو انتصار للذات أكثر من كونه انتصار للحق والحقيقة، حيث تنقلب حياتهم وتتحول لحالة دائمة من التذمر تعمي أبصارهم عن رؤية أي شيء جميل، وإنما فقط رؤية ما هو قبيح. 

   فالطبيعي أن تتذمر في بعض الأحيان وليس في كل الأحوال، بشرط أن يكون تذمرك ليس من أجل التذمر حتى لا يفقد معناه وقيمته في إصلاح الحال، وإنما يجب أن يكون بدافع الحب والانتماء، ولا يكون تذمر من أجل تحقيق انتصار زائف للذات، وإنما يجب أن يكون انتصار للحقيقة، وما يجب أن يكون على أرضية من حبك لذاتك والأخر والمجتمع الذي تحيا فيه، وتنتمي إليه.

   إن من سمات هذه الفئة غير المحبة لذاتها والأخرين أنهم يميلون إلى أسلوب تصنيف البشر بشكل تطرفي وثنائي، هذا معي لأنه يؤيد أفكاري، وذاك ضدي لأنه يعارض أفكاري، وياليتهم يكتفون بهذا بل أننا نجدهم يتوجهون بالسباب والشتائم واللعنات لمن يعارضونهم لدرجة قد تصل إلى درجة عدم الوعي، فقد أصبح التذمر في نسيجهم ودمهم، ومصورين أنفسهم أنهم الأكثر فهماً ووعياً وإدراكاً للأمور، مستخدمين الصوت العالي والزعيق، وفي بعض الأحيان- وهو الأخطر، ونشاهده اليوم ونعايشه في مناطق كثيره في البلدان العربية- اللجوء إلى العنف، واستخدام القوة والسلاح والرصاص. 

   ويعد الشعور بالامتعاض هو الشعور المسيطر والمهيمن على نفسية هذه الفئة من المتذمرين، ويكون سببا في تزويدهم بالطاقة التي غالبا يتم توظيفها فيما يلحق الأذى بذواتهم والأخرين والمجتمع الذي يعيشون فيه، ونقصد بالامتعاض هنا هو حالة سلبية من الشعور بالظلم والغبن والسخط والحزن والغيظ والإحباط والعجز والإهانة والاستخفاف والعدائية، “فأنا المتذمر” يمتعض من جشع الأخرين، وعدم نزاهتهم، وافتقادهم المصداقية، والشفافية، وكذبهم، والظلم وعدم الإنصاف، وتفضيلهم فئات وشرائح في المجتمع عن الفئات الأخرى الأكثر أهمية فيما يرتبط بنهضة الشعوب والأمم، والفشل من تحديد الأولويات، وعدم الاستفادة من تجارب الماضي.

   وجدير بالذكر أن كل أسباب الامتعاض عند تلك الفئة من المتذمرين قد لا يكون لها وجود حقيقي على أرض الواقع، وقد يكون لا وجود حقيقي وملموس، ففي حالة أن ليس لها وجود، فهي إذن موجودة فقط في مخيلتهم، في عقولهم، فهي مجرد إسقاطات يسقطونها -بوعي أو بدون وعي- وغالباً بدون وعي على الأخرين بوصفهم خصوم وأعداء.

    وأما في حالة كون تلك الأسباب لها وجود حقيقي وملموس فالعيب هنا يكمن في أن هؤلاء الأشخاص يركزون فقط على السلبيات، منكرون أي إيجابيات، فلا يرون إلا ما هو قبيح يسلطون عليه الضوء، ويبرزونه بخلاف ما هو إيجابي فنجدهم يغضون البصر عنه، أو يقللون من حجمه، أو في بعض الأحيان يتعمدون تشويه بما يخدم ويعزز ويغذي نظرتهم السلبية المتشائمة للأمور والأحداث، إنهم حقاً مرضى يلجؤون إلى تهويل وتضخيم  السلبيات، وفي نفس الوقت يهونون ويقللون الإيجابيات، ومن يريد أن يوضح لهم الصورة بأن الأمر ليس كما يروا ويتصورون، وليس بهذه الصورة السوداء المتشائمة، نجدهم يواجهون هذا المتطوع للنصح بالسباب والشتائم والصوت العالي، نحن إذن أمام اضطراب عقلي جماعي قد يعاني منه فئة من الناس تخدع نفسها بأنها تدعو للإصلاح والتغيير إلى الأفضل، وهى في حقيقة الأمر فئة ضلت الطريق وتحتاج هي نفسها للإصلاح، إنه التعصب والتطرف في الفكر والنظرة غير الحقيقة والموضوعية للأمور، التي تعمي القلوب التي في الصدور، ” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ” ( سورة الحج، 46)

   ولكن السؤال هنا الذي يفرض نفسه على، وهو ” كيف نتعامل مع تلك الفئة من المتذمرين، وما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع تلك الفئة المضطربة التي تسعى إلى الإصلاح والتغيير إلى الأفضل ولكن للآسف بأسلوب تطرفي، أعمى، لا يرى إلا القبح في الأشياء؟

أولاً: يجب ألا نتعامل معهم بوصفهم أعداء، ولا نتعامل معهم بمثل تصورهم لنا بوصفنا خصوم لهم وأعداء، مع الأخذ في الاعتبار، ومع البعض منه قد نضطر إلى التعامل معهم كأعداء في حالة استخدامهم القوة والعنف والسلاح والرصاص وذلك من خلال القيام بإجراءات أمنية عاجلة وحكيمة ومنظمة لحماية الأخرين من أناس فقدوا الوعي، وضلوا الطريق.

ثانياً: يجب على الطرف الأخر المتذمر منهم، ومن تصرفاتهم، وأفعالهم أن يتأملوا جيداً أسباب التذمر – لو كانت بالفعل لها وجود حقيقي وملموس- وأن يسرعوا في معالجتها، دون استخفاف أو تقليل من أهمية صرخات التذمر التي تصدر من هؤلاء على أن يتم هذا في جو من الشفافية والنزاهة والمصداقية والصبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى