البذرة الصالحة

 

مرفت عبد العزيز العريمي | كاتبة وباحثة عُمانيّة

     التربية والنشأة الصالحة هي ما تقلل من اتساع الفراغ الوجداني  وأعني بالنشاة الصالحة هي تعليم الأبناء مكارم الأخلاق من خلال وجود مثال يحتذى به في الأسرة .. أذكر قصة فيصل سليل عائلة معروفة الذي فقد حريته نتيجة تمرده على القيم الأخلاقية  فقد حكى لي خاله بأن والد فيصل أتاه باكيا يشكو من تمرد ابنه وعصيانه فمنذ أن خرج من السجن لم يعد يتحدث إليه  او ينصاع إلى أوامره وأصبح منزويا غامضا غريبا على الأسرة.. فحاول الخال أن يتدخل لإصلاح ذات البين علّ وعسى أن تعود الأمور بينهما إلى إفضل حال .. ففيصل يكن لخاله كل الاحترام والتقدير.. فتحدث إليه  لكنه أبى كل محاولات الإصلاح معللا ذلك “لم أتوقع يوما أن يكون مصيري السجن فأنا فيصل ابن عائلة معروفة أقضي زهرة شبابي بين قضبان السجن .. انتُزعت  حريتي وأظل عشر سنوات أندب حظي الذي أوصلني إلى هذا الطريق ..

أتذكر يا خالي عندما قمنا أنا وأخوتي وابنك علي بأخذ الحلويات والعصائر من البقال دون أن نعطيه ثمنها؟! أتذكر ماذا كان موقفك منا عندما جاء إليك البقال يشكوك من سلوكياتنا الهمجية فقمت بتوبيخنا وتوبيخ ابنك علي وأمرته بالاعتذار إلى البقال وإعطائه حقه في حين جل ما قام به والدي أنه وبخ البقال واتهمه بالكذب علما بأنه شاهدني مرارا أتي بأغراض من البقال من دون مال..

إلا انه آثر الصمت ولم يسألني يوما “من أين لك هذا” كبرت وترعرعت والسلوكيات الخاطئة تحولت إلى عادات فأصبحت أكذب وأغش وأرتشي وأسرق ولم يوجهني أحد إلى طريق الصواب إلا أنت، لكنني كابرت فأنت صوت واحد يدعو إلى الإصلاح  وهم كثيرون  والكثرة  تغلب الشجاعة حتى عندما اكتشف المدرس بأنني أسرق وقام بضربي واستدعاء ولي أمري فما كان من والدي إلا إلقاء اللوم كله على المدرس والمدرسة وتأنيبهم ليس لأنني أخطأت؛ بل لآنهم قاموا بتأديبي فأنا من وجهة نظر أبي “جاهل ” أي لا أفقه معنى الصح من الخطأ لذا فتوبيخي يعد كارثة وتعدي على حقوقي كطفل.

قضيت حياتي كلها دون توجيه أو عقاب .. لقد زرع والدي في نفسي بذره فساد.. حتى عندما انخرطت في مجال العمل كنت أسرق الوقت بقضاء ساعات طوال دون إنتاج، وكثيرا ما كنت أتمارض فأخذ أجازات طويلة دون أي شعور بالذنب، بل كنت أشعر بنشوة الانتصار لأني “خدعتهم” وما أنا بخادعهم بل خادع نفسي.

مرت الأيام حتى جاء اليوم الذي أحصد فيه الشوك الذي  زرعته بيدي فانتهى بي الأمر مسجونا  لأنني ارتشيت.. والآن تريد مني أن أسامح والدي على سوء تربيته لي.. أتريد أن أغفر له إفساده لي .. خالي العزيز كنت أتمنى أن تكون أنت والدي فقد انقظت ابنك علي من السقوط في الهاوية .. فأحسنت تربيته وأصبح خير الابن لنعم الوالد.

     الأخلاق والمبادىء والقيم يقال إنها في التركيبة الجينية للشخص وتختلف من شخص لآخر ويقال أيضا إنها فطرة طبيعية عند الإنسان موجودة بشكل طبيعي مع ولادة الطفل.. هنا اتساءل هل التربية الأخلاقية مسؤولية الأسرة أم المدرسة أم المجتمع أم مسؤوليتهم جميعا؟ .

يقول البعض إن المدرسة هي المعنية بالتربية وليست الأسرة والبعض يقول العكس.. آخرون يؤكدون بأن الشارع كفيل بتعليم الأبناء الأخلاق من خلال الوقوع في الأخطاء…

      يستمر الجدل  وكل برؤيته وقناعاته والنتيجة تكون مزيج أخلاقي وغير أخلاقي  يختلف من مجتمع لآخر فهناك مجتمعات تغلب فيها كفة الأخلاقيين وأخرى تغلب فيها كفة غير الأخلاقيين. لكن المحصلة سواء أكانت سلبا أم إيجابا يتحمل نتائجها المجتمع كله وأجيال متعاقبة  لأننا حتى الآن لم نحسم المسألة بوضوح علما بأن  الجميع  يجب أن يتشاطروا المسؤولية ويتحملوا النتائج وإن كانت الأسرة تتحمل العبء الأكبر.

عادة ما يهون البعض الأخطاء الصغيرة ويتغاضون عنها اعتقادا منهم بأنها لن تتكرر وليست مؤثرة .. تتراكم وتصبح كبيرة .. أحيانا كبيرة جدا وتستمر تكبر ككرة الثلج..  حينها  يصعب معالجتها وكما يقول المثل “عندما يفوت الفوت لا ينفع الصوت”، فالأسرة هي من تغذي الصغار بالأخلاق من خلال سلوكيات يومية صحيحة وتوجيه ومتابعة مستمرين وحمايتهم من رفقاء السوء والأفكار الهدامة التي ينقلها الأفراد ووسائل الاتصال الأخرى.

هذا إلى جانب المنهاج الدراسي في المراحل التعليمية المختلفة يجب أن يحتوي على مادة أخلاقية تعلم المبادىء والقيم بشكل مباشر أو غير مباشر إضافة إلى أهمية  وجود القدوة الحسنة في الأسرة والمدرسة والجامعة ومقر العمل فغياب القدوة الحسنة ذات شعبية سبب في انهيار القيم والأخلاق في المجتمع .

وتقدم الأمم اقتصاديا وحضاريا يرتبط بشكل مباشر بالقيم الأخلاقية فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن  نجاح المؤسسات  الاقتصادية كان نتاج تحلي موظفي تلك المؤسسات بقيم ومبادىء أخلاقية مثل الإحساسبالمسؤولية، والتعاون، ومساعدة الآخرين، والمحافظة على الحقوق العامة والخاصة وغيرها.

وحاليا تعكف معظم الدول المتقدمة على غرس المبادىء الأخلاقية في بيئات العمل من خلال تطبيق نظام الإدارة بالأخلاق بعد انتشار الفساد في مؤسساتها  والمجتمعات.

إن التلوث الأخلاقي أخطر أنواع التلوث لأنه الأساس الذي تعتمد عليه كافة سلوكيات الإنسان في المجتمع  فعلى سبيل المثال إن أردنا القضاء على مشكلة التلوث البيئي يجب أن نزرع في نفوس أبنائنا المبادىء الأخلاقية التي تمنعنا من الإضرار بالطبيعة والإنسان فهذا كفيل بحل المشكلة.

يتساءل البعض من المسؤول عن الفساد الأخلاقي في المجتمعات والمؤسسات، الإجابة ليست صعبة أو علما من علوم الفضاء، الفساد أو الانحراف عن الطريق القويم ناتج عن أفراد فقدوا الانتماء إلى الوطن أو المجتمع  أو الأسرة أشخاص محبين لذواتهم يعشقون نجوميتهم فتكون مصلحتهم الخاصة فوق المصلحة العامة للجماعة.. وهم أفراد وجدوا من يحقق لهم مآرابهم  ممن يبحثون عن بريق الشهرة وأكل الفتات.. فلا يمكن أن يفسد الفرد إن لم يجد من يساعده على ذلك فالعلاقة تنكمش وتموت إن لم تجد دماء تتغذى عليها. وهنا يظهر معدن الفرد والمبادىء التي نشأ عليها؛ فهي تعد الرادع عن أي سلوك يتنافى مع الأخلاقيات التي نشأ عليها، فالأمم  تبنى بالأخلاق  فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى