الأماكن تحتشدُ لي حين تراني

د. كاميليا عبد الفتاح | الإسكندرية
ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي أرى فيها الأماكن تتأهب، تحتشدُ لي حين تراني ..لا يُعقل أن أتهيب هذا طيلة الوقت، وأظلّ مختبئةً. ما إن توسّطتُ ميدان محطة الرمل حتى هرولت بعضُ الأماكن، أحاطت بي في دائرة مُحكمة، مُتعلّلة بطول غيابي، وإشفاقها من نسياني إياها: بيتنا القديم في المكس وأبواق البواخر التي لم أكن أغفو إلا عليها ، متواثبة بخيالي – فوق أسطحها – على إيقاع شدو الصيادين الساهرين على رمل الشاطئ.
رائحة الرمل ورائحة النوارس، الدور العلوي من الترام الأزرق: أمد كفيّ من النافذة لرذاذ المطر ، وأحمل بالأخرى آيس كريم من محل “سلطانة “، لا أنتهي منه إلا عند نزولي في محطة الشبّان المسلمين، حيثُ أهرول من باب كلية الآداب لألحق محاضرتي الأولى حاملة في قلبي ما أمكن من رائحة المطر والشوارع.
ما هذه البناية؟ شقة الزوجية الأولى: أُطلّ على المطر، وحرّاس العمارة – بجلابيبهم الصوفية – يستدفئون بالفحم المشتعل في المنقد الذي تصلُ إليّ رائحته المميزة ، وأنا أستدفئ بصوت فيروز الذي يشرقُ – من جهاز الكاسيت – بأغاني ” ميس الريم ” :
يا سنيني اللي راح ترجعي لي
ارجعي لي / شي مرة ارجعي لي
رديني ع باب الطفولة / تا أركض بشمس الطرقات ..!
هذه أماكن ضممتُ ملامحها قبل سفري من مصر ، وتلك أماكن سافرتُ بعيدا عنها دون أن أسافر ..!
هذا الطريق يُفضي إلى بيت أمي. ابتسمتْ في دهشة حين قلتُ لها إنّ صورتها تحضر أمام عيني كلما غنّت فيروز لستّها (اللي من كحلول):
اشتقت لك يا ستي
علّي صوتك… صوتك بعيد
جاي من الكرم .. جاي من التفاح
صوتك حامل شمس وفيِّ / لون التين والزيتون
ايـــــــــــــــــــــه / وريحة الطيّون يا ستي
رائحة البحر والشجر، ورائحة توابل أمي تركضُ من دولاب المطبخ وتفتح لي الباب. في السنوات الأخيرة امتزج هذا كلُه برائحة توسلاتها ألّا نغرس الحقن في أوردتها الهاربة من الخوف ..! فاجأتني أمي حين دُفِنتْ على مسافة عشرين شجرة من بيتها :
بذكر الليالي الطويلة وأنا طفلة بالزمان
وقصص الشتا يحكي لي صوتك اللي كله أمان ..
إيه يا ستي ، شو بقلّك يا ستي ؟!
توقفتْ دندنةُ فيروز الشجية في قلبي حين سألني أحد المصوّرين الجوّابين ، وهو يشير إلى الكاميرا التي يحملها :
صورة مع المكان يا مدام ؟!
حدقتُ فيه ، بعينين تتهمانه: المكان؟!! أيّ الأماكن دفع لك رشوةً وأرسلكَ إليّ ؟!
أعاد السؤال مرتبكا، فهززتُ رأسي بنفيٍ قاطع ، والتقطتُ صورة سيلفي مع الروائح .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى