عصفور وحمامة وغراب ظالم
رفعت زيتون | فلسطين
منذ سنوات وأنا أشارك الطيور بقايا الطعام والخبز، أبلله بقليل من الماء، وأنثره لها بقدر ما تصل إليه يديّ، حتى أصبح ذلك عندي إحساسا بالواجب وفعلا شبه يوميّ بعد أن شاهدت فيلما عن نثر الطعام للطيور أيام الثلج عند الأتراك. إعتدت ذلك في الرحلات والبيت والعمل، حيث تتجمع الطيور على أنواعها ينادي بعضها بعضا فرحين بما وهبهم الله من رزق يسدّ جوعهم على يد من يسخر الله لهم من العباد. كنت أحيانا أفكر كيف لتلك الكائنات الضعيفة أن لا تقلق برزق يومها؟ ولماذا لا تبني مخازن عملاقة خشية جوع وإملاق كما نفعل نحن بني البشر؟ أتراها قد وصلت ليقينٍ لم يصله كثير من الناس بأن من خلقها قد تكفل برزقها وضمنه لها، فذهب عنها الخوف والقلق؟ أم تراها قد ألهمها الله ذلك العهد بأن لا خوف على رزقهم وبأنهم أبدا لا يحزنون؟
اليوم كان العصفور يأكل بجانب حمامة رقيقة الحركة بإيقاع متناغم، ثم تجمع العديد من العصافير والحمام، كلٌّ يأكل ما يملأ معدته الصغيرة فقط، وقد يحمل أحدهم بمنقاره الصغير حبة خبز فيطير بها إلى صغاره ثم يعود لينقل غيرها فرحا بما آتاه الله من فضله. كان الطعام كثيرا ويكفي لأضعاف تلك الأعداد المنتشرة فوق تلك المائدة. وما أن مرّت الدقائق حتّى هبطت حمامة كبيرة، وربما كان أحد ذكور الحمام الضخمة، فبدأ يدور حول قطع الخبز بحركة هستيرية يبعد بها صغار العصافير والحمام عن تلك المائدة الكبيرة، فتباعدوا خوفا من همهماته وصوته الهادر. كانوا يراقبونه بحسرة وحزن وهو يلتقط الطعام بنهم وتسارع كبير. أغاظني هذا الظلم، ولكنني آثرت أن لا أقدم على حركة تخيف باقي الطيور فتهرب هلعا ولا تعود. لم يرِقّ قلبه لتوسلات تلك البطون الصغيرة الجائعة وهي تحاول الاقتراب من الطعام، إذ كان يهاجمها كلما اقتربت. قررت لحظتها أن أتدخل وأن ألقيَ شيئا على هذا الجشع الضخم، وقبل أن أبادر بإلقاء شيء عليه انقض عليه غراب كبير، فانتفض هاربا ولحقه باقي العصافير والحمام فارّين مذعورين، فتساوى ساعتها مع البقية في الخوف واحساس الظلم. شعرت عندها بانتصار للحق ضد الظلم، ولكنه شعور لم يدم طويلا بعد أن رأيت من الغراب ما رأيت من تلك الحمامة الظالمة من جشع، هنا لم أنتظر طويلا حتى تناولت زجاجة ماء بلاستيكية فيها القليل من الماء، فألقيتها على الغراب. شعرت لحظتها أنني أضرب بها كل ظالم لبني جنسه، وكأنني أريد أن أنتصر للحق. كان خوف الغراب أكبر من أن يفكر بالعودة، فخلى المكان لتلك المخلوقات الضعيفة فعادت لتناول الطعام، ولكن بوتيرة أسرع من قبل، ربما فعلت ذلك خشية أن يأتيَ ظالم جديد يستولي على المائدة فاختلّ ايقاع تناولها للطعام، وكان بتسارع أكبر.
فشلت الطيور يومها فشلا ذريعا في اقناعي أن عالمهم أجمل من عالمنا، ربما بنسب أقل، ولكنه عالم قائم على ذات القانون، أن القوة هي الحق، كما يقول المثل الإنجليزي، وأن العدالة ما هي إلا وهم كبير، وأن لا مكان للضعفاء إلا إذا أُخِذَ على يد الظالم بما أوتينا من قوة، حتى لو كان ذلك بزجاجة ماء بلاستيكية.