البناء المجتمعي بين الخطاب النقدي والنظرية النقدية
بقلم : عماد خالد رحمة ـ| ألمانيا
استمر تحليل الخطاب النقدي ضمن سياق المناهج المتبعة للتحليل في العلوم الإنسانية والاجتماعية لأنه يعتبر أحد المنهجيات المتقدمة في دراسة الخطاب، وذلك منذ كتب الباحث البريطاني نورمان فاركلوف المتخصص في اللسانيات كتابه الهام جداً (اللغة والسلطة) عام 1989 م.
ولا تعتبر هذه المنهجية منسجمة ومتجانسة ولا موحدة، ولا تحصر نفسها في أسلوب معين أو طريقة ما، ولكن الافتراض التي يتشارك به جميع المهتمين بالتحليل النقدي للخطاب هو أن السلطة واللغة مرتبطان مع بعضهما البعض ارتباطاً كلياً.كما يستخدم مصطلح النظرية النقدية للإشارة إلى نقد وتقييم فكري للمجتمع والثقافة بواسطة المعارف المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانيات، وهي مبنية أيضاً على أصول في علم الاجتماع والنقد الأدبي، فقد وصف الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر، الفلسفة الماركسية لمدرسة فرانكفورت بأنها تطورت بشكلٍ متسارع في ألمانيا. وهي تسعى إلى تحرير الناس من الظروف الصعبة والقاهرة التي تستعبدهم.
فقد اعتمد معظم منظروا مدرسة فرانكفورت الألمانية النقدية على العديد من المناهج النقدية التي قدمها الفيلسوف الألماني كارل ماركس، والطبيب النمساوي سيغموند فرويد، بخاصة وأنَّ النظرية النقدية تؤكد على أنَّ الأيديولوجيا تشكل عقبة أساسية بالنسبة لتحرير الناس.
وكان العديد من الفلاسفة والمفكرين قد ساهموا في عملية النقد على أساس انتمائها إلى مدرسة فكرية حيث كان منهم الفيلسوف والمفكر الألماني الأمريكي المعروف هربرت ماركوزة بتنظيره لليسار الراديكالي وحركات اليسار الجديد، والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر، وعالم النفس والفيلسوف الإنساني الألماني الأمريكي،إريك فروم، والفيلسوف وعالم الاجتماع وعالم النفس والموسيقي الألماني، تيودور أدونورنو الذي اشتهر بنظريَّاته النقدية الاجتماعية، والفيلسوف الألماني والناقد الثقافي وكاتب المقالات والتر بنديكس شونفليس بنيامين الذي يعدّ مفكراً انتقائياً، يجمع بين عناصر المثالية.
كما تأثرت النظرية النقدية الحديثة بالإضافة إلى ذلك الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، والفيلسوف والكاتب والناقد جورج لوكاتش وهو وزير مجري ماركسي.
إضافة إلى ما قدمه الجيل الثاني من مفكري العالم وتحديداً مفكري مدرسة فرانكفورت خصوصاً الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس. لأنَّ النظرية النقدية في عمل يورغن هابرماس تجاوزت في أصولها النظرية المثالية الألمانية ونجحت واقتربت بشكلٍ كبير من البراغماتية الأمريكية.
في هذا السياق يمكننا أن نعتبر الاهتمام بفكرة البنية التحتية والبنية الفوقية الاجتماعية، واحدة من أهم المفاهيم الفلسفية التي أورثتها الماركسية المتبقية في الكثير من النظرية النقدية المعاصرة.
من هنا نجد أنَّ النظرية النقدية فيما بعد الحداثة ساهمت بجعل كل القضايا والمشاكل الاجتماعية مسيسة من خلال وضعها في سياقات تاريخية ومعرفية وثقافية، لتدفع بذاتها في عمليات جمع وقراءة وتحليل البيانات ومعرفة نسبية نتائجها.
الجدير بالذكر أنّ أصحاب النظرية النقدية كانوا قد افترضوا بأنَّ الخطاب النقدي هو الوسيلة أو الواسطة الحقيقية لتنشيط وتفعيل دور التحرر داخل المجتمعات.
فقد ظلَّ هذا الموضوع من الموضوعات الهامة جداً التي شغلت حيزاً كبيراً من التفكير في تطوير أساليبه وطرقه وآلياته داخل المجتمعات. بخاصة بعد انتهاء دور الكنيسة، حتى إنه أصبح أهم حدث تاريخي نتج عن الثورة الفرنسية التي بدأت عام 1789 م، إلا أنه انتهى تماماً فيما بعد ،وأصبح مجرد صورة نميّز بها مدِّعي الإنسانية والتحرر لا غير، فضلاً عن استخدامه من قبل عامة البشر بعد أن أنتجت الحداثة وما بعدها تطوراً مذهلاً في مجال الاتصالات والثورة الرقمية وأصبح الإنسان يعيش مرحلة انتقال مميزة وفريدة من نوعها أطلق عليها علماء الاجتماع الأنا الجديدة أو التفريد ،وانتقل الإنسان من مرحلة المواطن إلى مرحلة الفرد، وكتب من كتب في هذا المجال أمثال عالم الاجتماع والبروفسور والكاتب غير الروائي الألماني أورليش بيك، والممثلة الأسترالية اليزابيث ديبيكي أو (إليزابيث بيك) والشاعر والكاتب الفرنسي مؤسس الحركة الإجماعية الأدبية جول رومان،أو جول رومينز، وغيرهم كثير، محاولة منهم لرسم ملامح الإنسان في فترة ما بعد الحداثة ودراسة مستقبله ورغائبه وطموحاته، والمؤثرات الكبيرة التي قد تؤثر به على جميع المجالات والأصعدة، فضلاً عن دراسة وفهم الفجوة المتزايدة بين الفردية بوصفها قدراً والفردية بوصفها المقدرة المنطقية الواقعية والعلمية التي تؤكد على (الأنا) الذات، وبهذا أثبت الجميع أنَّ الإنسان في هذه المرحلة انتقل انتقالاً نوعياً نحو البحث عن مستقبله ومصيره الشخصي خلافاً لمصير الجماعة، وبالتالي ازدادت دائرة التناقضات واتسعت في همَّة الأفراد كون السلطة العامة الحاكمة تنذر وتعمل على عدم اكتمال الحرية الفردية في الذات الفرد، من هنا يمكننا أيضاً أن نقول إنَّ وظيفة الفكر النقدي أصبحت تتجلى في إعاقة طريق الحرية أو إغلاق بابه تماماً، بسبب الحواجز والمعيقات الكبيرة العوائق والمشكلات العامة المستشرية والمنتشرة كالنار في الهشيم التي تفوق قدرة الفرد في فترة ما بعد الحداثة، وَحَلَّتْ سياسة الحياة اليومية الآنية بدل من السياسة العامة، وأصبح الأفراد داخل المجتمع عبارة عن صورة هلامية، صورة شكلية لا غير، يحاربون أمراض المجتمع وآفات تحولات الحياة العامة وسياقاتها ومجرياتها بمفردهم بعيداً عن المفاهيم العقلانية والآراء المنطقية غير المجدية الذي يدعوه أصحاب الخطاب النقدي، بصفتهم أصحاب عقلٍ وفكرٍ ومعرفة وبصفتهم أيضاً محرِّرين الأفراد من الأخطار ويقومون بواجب التنبيه لهم من المخاطر الجمة، على الرغم من معرفة بعضهم بشكلٍ مسبق بعدم اهتمام الأفراد بالأفكار والمفاهيم والآراء التي لا يتم طرحها في أي مكان، فضلاً عن علاقة الإنسان مع القوة الخارجية والقوة الميتافيزيقية، وما تستطيع أن تقدم له هذه القدرة وتلك القوة، بغض النظر عن حقيقتها وماهيتها وأهميتها له،فقد آلت مهمة التنظيم والتصميم والحفاظ على تلك الجهود المنظمة على عاتق الإنسان نفسه لأنه في ظلّ هذه التحولات البنيوية أصبح يعاني من مسألة العيش اليومي الكريم، وانقضاضه نحو أجله المحتوم من قبل العلوم والسياسات العالمية المسيطرة،فزمن الدعاةوالمفكرين الفلاسفة والمثقفين وأصحاب الفكر النقدي وأصحاب العقل النضر المتوهّج قد ولّى، نتيجة التناقضات الحادّة حول فهم الحرية وماهيتها واستطالاتها ومحاولة الإنسان في الثبات في زمن التبدل والتغير، ولم يكتفِ البعض بهذا الحد من التهميش والتقاعس وعدم المسؤولية تجاه هؤلاء ومشروعهم في إنجاز المهمّة التي أوكلت إليهم، إلا أن جملة الأفكار والمفاهيم والمعارف الناظمة التي انبثق عنها هؤلاء أصبحت تتهمهم بالقصور والعجز واستخدام كل أشكال الخداع والمراوغة على الرغم من مساعيهم الحثيثة المستمرة .