إليك يا أبي
عبد الغني المخلافي | اليمن
بي شوق جارف إليك يا أبى وكثيرًا ما أتساءل في حنيني المتعاظم عن حالتك في عالم الموتى وهل تعلم إلى أين عادتْ بالوطن سنوات الحرب المشتعلة، وإلى أين آلت بنا ظروف الحياة الصعبة. وكيف تفرق أولادك في المدن وصار كل واحد منهم بعيدًا عن الآخر.
وهل بلغتك أخبار عودتي من الغربة وبقائي حاليًا في الوطن واشتياقي الدائم إلى مجالستك وكيف لا يمر يوم دون أن أتذكرك وأستعيد لحظاتي الجميلة بقربك وأسترجع مقولاتك الحكيمة ورؤاك الثاقبة وعظمتك المتجلية في أفعالك وأدوارك الإنسانية والاستثنائية.
هأنذا أحتاج إلى نقاشك وتوجيهاتك
و نصائحك في أموري المستعصية وتجاربي وقراءاتي وتصوراتي وتحليلاتي واستنتاجاتي وتوقعاتي ورموزي وطلاسمي وألغازي الغامضة.. وإلى حديثك المستطرد الملم في الشعر والأدب و شؤون الحياة المتناقضة، لمعرفتي الوثيقة بمحبتك للثقافة وتقديرك وتثمينك العظيم للفن وانشغالك المتزايد بهمومك الوطنية والحياتية و اليومية الثقيلة ، وكيف دفعت بي في بداياتي إلى مضمار الأدب بوعيك وحماسك وتحفيزك، وكيف صرتُ اليوم لا أستطيع العيش دونه، وكم أتمنى لو تعرف إلى أين أخذني بسعته وتفرعاته ومتعه وسحره وقديمه وحاضره ونجاحاته وخسائره، وكم قطعت في دروبه القصية والمتعددة والصعبة والسهلة من مسافات، أسقط وأنهض، أتوقف وأمضي، أتعثر وأواصل، ولم أتوقع بلوغي فيه إلى هذا الحد.
عندما صدر كتابي الأول تعثر وصوله إلى متناول يديك، بسبب إغلاق منافذ المدينة وحرمت عند عودتي إلى الوطن من زيارتك واكتفيت بالإقامة طوال إجازتي في القرية، بعدها سافرت وأنا أخشى ألا ألتقيك، ففجعت بموتك بعد عودتي إلى الغربة بشهرين ولم يبارحني من حينه ألم رحيلك إلى الآن ولا أظنه أبدًا سيزول كوني لم أستطع وقتها رؤيتك وتوديعك. وخاصة بعد أن علمت أنك كنت تريد تطلعني على أشياء مهمة .
وأذكر تشجيعك المصر على طباعة ديواني الأول ولا تزال في مسامعي كلماتك :اطبع كتابك ولو بمبلغٍ باهظٍ، كل شيء ذاهب ما عدا الكلمة باقية و خالدة إلى الأبد.
وهل تعلم عن إصداراتي المتعاقبة والتي بلغت ستة كتب، وكيف صارت الكتابة حياة بالنسبة لي، ووسيلة لإسعادي، وشعوري بالكينونة، وأنا في الخمسين من عمري؛ لم أعد أجد المتعة الكافية خارجها.
أسردُ كل يوم جزءًا من سيرة كفاحك الزاخرة بالعطاء والبذل والتفاني والتضحية والصبر والإيثار علَى أبنائي وأحفادي وأجدهم متفاخرين جدًا بمكارمك ومآثرك وأخلاقك العالية ومواقفك العظيمة.
عشتُ مع أناس من أجناس مختلفة ولم أجد من يتمتع بصفاتك وخصائصك . فأنا أتحدثُ هنا بكل شفافية وحيادية و موضوعية وبعيدًا عن كونك أبي. لم يمنحك هذا الوطن الأعمى فرصة الظهور والمكانة المستحقة.
هذا الوطن الطافح بالزيف والتغييب. هذا الوطن الذي لا ينصف ولا يكافئ ولا يمنح فرص العيش الكريمة .
ماذا لو لم احظَ بفرصة العمل خارج حدوده ، هل كنت حققت ماحققته من أحلام وأهداف متواضعة، لا أعتقد ذلك أبدًا، فالكل يصارع داخله من أجل البقاء والحصول على لقمةِ عيشٍ جافة.