لوثة الرايقة ^
زياد مبارك | السودان
(قصة قصيرة واقعية عن نويقد حوّل أدواته النقدية إلى أدوات كيدية)
بينما كان ينتظر أن يغط في توقٍ عميق؛ نجا من محاولة لاغتياله بنيران صديقة أتته في هيئة هجاء وصفه بصورة جيدة فذهب بعقله. كان في إمكانه أن يتسكع فيما تبقى له رويداً رويداً إلى حتف أنفه لولا أنه اختار الصعود إلى قمة جبل المزبلة، ثم تردَّى!
خرج من مكتبه بعد يوم عملٍ شاق، مهامه ليست كثيرة، كان أشبه بعاطلٍ يقضي بعض أيامه في مكتبه ليحرر بعض الأوراق ويؤانس زواره بأحاديث لا تهم أحداً سواه، كانت الأيام الأخيرة مرهقة بالنسبة لأعصابه التي لم تعد كما كانت في السابق. يشعر بأنه في طريقه لانهيار حاد. جلس بجوار النافذة في المركبة العامة. سمح للذباب بالتكالب على وجهه المتعرق بعد أن يبست يداه على حجره ولم تطاوعا رغبته في هش الذباب بعيداً، استسلم للنوم وترك لشخيره العنان.
فتح عينيه بعد ساعة من الزمن، وقبل دقائق يسيرة من المكان الذي يقصده. كان قد غرق في النوم بدون أن يشعر فاتحاً فاهه. هشّ سرب الذباب الذي رافقه في رحلته عن وجهه واستخرج من فمه اثنتين سابحتين في لعابه ونظر إلى داخل المركبة، كانت شبه فارغة، قليل من الركاب لاحظ أنهم يضعون سماعات على آذانهم ويرمقونه بنظرات بدت له جوفاء من أي معنى. نظر إلى ساعته، عقاربها المتوقفة لم تسعفه لمعرفة الزمن، هي أيضاً استنفدت طاقتها ولم يعد لديها رمق من حياة. ألقى نظرة على الورقة التي أعدها لندوة الليلة الثقافية، اطمأن لوجودها معه، ثم أعادها لجيب جلبابه العلوي.
كان آخر الواصلين إلى الندوة، دلف إلى الملتقى متأخراً عن الموعد المعلن. وجد الفعالية على وشك الانتهاء وآخر المتحدثين يقرأ ورقته على المنصة. أسرع إلى المنصة وانتزع المايك من يده وسط دهشة الجميع. أخرج الورقة من جيبه العلوي، ورفعها عالياً في الهواء. بدأ في القراءة بعد أن اطمأن لرؤية الحاضرين الورقة الأثيرة:
– ذكر لي الشاعر علي عبد السميع أن ديوان الشاعرة عشة كرور لم يرق له، وكان ذلك بحضور جمعٍ من المؤلفين.
وأشار بإصبعه إلى الشاعر والشاعرة والمؤلفين.
ثم رفع الورقة مرة أخرى أمام الحضور، وقربها من عينيه ليذكر اسماً لشاعر آخر، وأشار إليه، وشهوداً آخرين وأشار إليهم. وظل يذكر الأسماء والأحاديث حتى فرغ من الورقة ورفع رأسه..
ليجد نفسه وحيداً في المنصة، يحوم حوله الذباب، وقد تلاشى كل الحاضرين.
|||
وفي أمسية هادئة، اقتحم بذات جلبابه حفلاً لتدشين رواية لمؤلف شاب. وما أن أخرج الورقة التي أعدها للحفل من جيب جلبابه العلوي حتى وجد الساحة خالية. لم ينثن عزمه، قرأها لآخر سطر وألقى للريح كل الأسماء والأحاديث التي دوّنها.
|||
قضى يومه منذ الصباح الباكر في إعداد ورقة لمحفل هذا اليوم. هي الورقة الأهم في جملة ما قام بكتابته ونشره على الملأ. استعان بأصحاب الفتن والأغراض، وأفرغ من نفثاته المرّة أشدّها كيداً. سيحضر غريمه الشاعر الكبير للمحفل وعليه أن يسعى بشتى الطرق وأمضاها لنسف مكانته أمام الجمهور. كان الهجاء الذي سدّده إليه هو السبب في جولاته الأخيرة على تجمعات المثقفين، ومازال ذاك الهجاء شوكاً وعلقماً في حلقه. عندما قاربت الشمس على الأفول حمل ملفاً يحوي رزمة من الأوراق. كلها كانت عن غريمه، دوّن كل ما كان يعرفه من أسرار الشاعر، وما نُقل إليه همساً. ثم توجه إلى المحفل. جلس بجوار النافذة في المركبة العامة. ولكن جفناه لم يغمضا برغم حاجته للنوم. ظل يقلّب أوراق الملف، يراجع ما قام بتدوينه عساه لا يكون سها عن أمرٍ ما، بينما لم يجد الذباب المتكالب على وجهه المتعرق يداً تهش عليه.
|||
جلس بهدوء في صف الكراسي الأخير، لم يلاحظ أحد دخوله الهادئ. اعتادوا دخوله العاصف في كل مناسبة. الجميع انتباههم معلق بالمنصة. شاهد غريمه يلقي قصيدة، سأل نفسه إن كان قد لاحظ دخوله. قرر أن ينتظر حتى يفرغ الشاعر من قصيدته ثم يتقدّم إلى المنصة ليقرأ ملفه على الحاضرين. انتظر طويلاً أن تجمعه فرصة كهذه بغريمه وها هي قد حانت.
– اقرأ قصيدة (……)!
سرت رعشة في جسده كصعقة كهربائية، كاد أن يسقط من على الكرسي. سمع الحضور وهم يلحون على الشاعر ليلقي عليهم قصيدة (……). انتفض بسرعة كملدوغ ومضى وهو يتعثر في طريقه للخروج. نسي ملفه الذي وضعه بالكرسي المجاور، لمح أوراقه والريح تكنسها وتذروها. حثّ قدميه على حمله إلى الخارج بسرعة، تمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه، وصوت الشاعر الذي استجاب لطلب الحاضرين يصفع قفاه:
– ”…………….
…………….
…………….“
^^^^^
• الرايقة: هي بطلة القصة القصيرة (حملة الرايقة التفتيشية) للقاص مصطفى مبارك. ظلت الرايقة صامتة لأسبوع مما دفع صديقتها كلتوم للذهاب بها إلى الحاج أبكر الذي كتب لها حجاباً ضد العمل، واصطحبتها لزار قريب، ولم يخرجها كل ذلك من صمتها. كان سكان المدينة يطلقون على بيت الرايقة (فندق الثلاث نجوم) نسبة لها ولكلتوم وللقاش. لكل واحدة منهن قصة أتت بها إلى المدينة. الرايقة زوجها أهلها قسراً من معلم المدرسة الهرم فهربت منه. والقاش حملت سفاحاً من عبد القادر الميكانيكي فتركت قريتها. أما كلتوم فكان لها زوج وطفل صغير فأغواها بعضهم ثم تركت منزل الزوجية. فاجتمعن وعشن معاً يستقبلن الزوار الطالبين للمتعة.
عندما تكلمت الرايقة أبدت رغبتها في الذهاب للسوق، لم تستطع كلتوم أن تثنيها عن الذهاب فخرجت معها، وما أن بلغتا السوق حتى خلعت الرايقة ملابسها ووقفت عارية كما ولدتها أمها وتجولت بهذه الهيئة وسط دهشة الناس. اتجهت نحو دكان الخير تاجر الجملة الشهير.
– الخير أخوي مالك طولت مننا؟
(حاول أن يتجاهلها، لكن عندما تقدمت نحوه فاتحة ذراعيها كأنها تريد أن تحتضنه، ترك مكانه على المائدة العريضة في مدخل المتجر، هرول نحو العربة، انطلق هارباً).
||||
(اتجهت يتبعها الصبية الفضوليون وصعاليك المدينة، أشاحت بعض النساء بوجوههن خجلاً عندما مرّت بقربهن. كانت تزغرد بتواصل، زغاريد تردد صداها فرندات المتاجر وهي تواصل حملتها التفتيشية).
||||
(أقفل الكثير من التجار متاجرهم، غادروا السوق، بل أن عم أبو زيد الورع، تاجر العيش، هرول مبتعداً حتى وقعت عمامته، وذلك عندما سمع بجولة الرايقة، رغم أن سوق العيش يبعد كثيراً عن مكان تواجدها).
||||
(مكتب البريد والبرق، فرع البنك الاستثماري، إدارة الزراعة، المجلس البلدي… عندما تناهى لموظفيها مرور الرايقة التفتيشي وحملتها تركوا مكاتبهم دون أن يسألوا عن اسمها. فقط سمعوا ”أن هناك واحدة“… هنالك في أعالي التلال الرملية حيث يقع المركز والمحكمة والسجن، ترك البعض مكاتبهم وهربوا، محمد الصراف وهو أب لخمسة أطفال، ترك باب الخزنة مفتوحاً، أسرع نحو منزله بحجة أنه شعر بوعكة، ضابط المجلس البلدي أُصيب بإسهال. انتقل الخبر كالنار في الهشيم، ما بين حال الرايقة وهي لابسة ملابسها وحالها وهي عارية، لم تمر أكثر من نصف ساعة في عمر الزمن لكنها كانت كافية لأن يصبح وسط السوق شبه مقفر، مع أن الوقت كان صباحاً حلواً).