النعناع الأحمر

حسان علي | سورية

فيما تتجه الأمور نحو التصعيد ويزداد الخناق والحصار من جراء امتداد المسلحين، لم يكن أمام الأهالي الاّ الصمود والمواجهة والتصدي للاعتداءات المتكررة التي طالت بيوتهم وأفسدت عليهم حياتهم، كان هدف المسلحين رغبتهم بالاستيلاء على المخيم وجعله بوابة عبور لاعتداءاتهم على مناطق أخرى.
انبرى الشبان للدفاع عن وجودهم وأعراضهم رغم معرفتهم المسبقة بقلّة امكانياتهم وقدرتهم على مواجهتهم ومع ذلك اتخذوا قرارهم، تحملوا من أجل ذلك, (علي) واحد من هؤلاء، انخرط في صفوف اللجان ليقوم بواجبه، ترك كل شيء خلفه ومضى يحمل السلاح وقلبه وتفكيره في مصير عائلته، حاول رفاقه ثنيّه أن يبقى الى جانب زوجته الحامل غير أنّه أبّى وبشدّة، قال لهم: الموت يتربص بنا وتريدون مني البقاء في البيت، لا لن أتراجع وسأكون معكم.
اشتدّت وطأة القتال وعاش المخيم على وقع الانفجارات والرصاص حتى أن الأهالي اعتادوا على هذا المشهد واستمرّت حياتهم الجديدة وعلى نفس الوتيرة، عند منتصف النهار في اليوم العاشر من شهر رمضان، (أم علي) راحت تعدّ طعام الافطار وعينها تراقب زوجة ابنها الحامل وبين الفينة والأخرى كانت تنادي عليها:
قومي يا ابنتي، الله يرضى عليك، تحرّكي، امشي فان ذلك يسهّل عليك الولادة، يبدو أنك ستلدين هذا اليوم.
تقوم (فاطمة) بصعوبة بالغة بعد أن وضعت يديها على بطنها المنتفخ لتتحرك ببطء باتجاه المطبخ في صدرها إحساس بالخوف والرهبة من ألم المخاض الذي بدأ يشتدّ عليها بين لحظة وأخرى.
جهزّت (أم علي) مكاناً لها وراحت تحدّثها عن رمضان والصيام وعن أحوال الناس ومعاناتهم وعن أمور أخرى في المخيم، فجأة انتفضّت فاطمة من مكانها واضعة يديها على بطنها وراحت تصرخ وتتألم قائلة: أشعر بالوجع، هنا وأشارت الى أسفل بطنها.
ابتسمت أم علي وبثقة قالت: خير انشا الله، خير يا ابنتي، هانت، اطمئني ولا تخافي فقد سبق لي أن مررت بهذه الحالة أكثر من عشر مرات، قومي، تحركي، سيفرح زوجك علي الله يحميه ويحمي كل الشباب.
الشمس تقترب من المغيب وأم علي تطل ّ برأسها تنادي: احضروا الداية ” أم أحمد “، يمضي الوقت وفاطمة على حالتها تصرخ من شدّة الألم وأم علي وبعض النسوة مشغولات بإعداد الماء الساخن وتجهيز الثياب وغلي القرفة والميرمية.
اختفت الشمس تماماً عندما دوّى صوت انفجار هائل جراء سقوط القذائف تلاه أصوات زخات متواصلة من الرصاص، صرخات ألم قوية تأتي متزامنة من داخل البيت تختلط مع أصوات من الخارج وفي لحظة صمت عابرة عند أذان المغرب والافطار انبعث صوت بكاء المولود لتنطلق الزغاريد مختلطة بأصوات الانفجارات وسقوط القذائف على المخيم في تلك الأثناء.
أم علي توصي أحد أبنائها كي يخبروا أخيهم علي المتواجد عند أطراف المخيم بأنه أصبح أباً، وماهي الا فترة وجيزة ويأتي علي من بعيد ويده على كعب بندقيته المعلّقة بكتفه، تستقبله النسوة بالزغاريد وسيل من التهاني والتبريكات، ينحني متأملاً وجه زوجته فاطمة التي استسلمت للنوم بينما بدت على وجهه علامات كثيرة وفي العين دمعة فرح، اقترب من أذن الوليد ليرفع الآذان مبتهلاً الى السماء، ثم غادر.
توافدت النسوة وغصّ البيت بهم وكانت فاطمة قد استعادت بعضاً من نشاطها تستمع بسعادة ورضا الى أحاديثهن عن الحمل والولادة والنصائح وقد امتلأت أرجاء البيت بروائح البخور والقرفة والبارود، لكن أحداً لم يعبأ كثيراً.
عاد علي يحمل بيديه كيساً، ناوله لأمه كي تقدمه للضيوف والمهنئين قائلا: هذا حلوان ” خالد ” وعقبال عند الجميع، تلاقت نظرات علي بزوجته ولمعت في سماء المخيم رشقات متواصلة من الأعيرة النارية، طلب علي من والدته أن تعطيه كيس قد أحضره في وقت سابق، فتحه وراح ينثر بعضاً من البذور في فسحة البيت تيمّناً بمولوده الجديد.
كان الوقت قد تأخر وما زالت أصوات القذائف حاضرة لكن علي مضى يزرع اذ ان التربة كانت مرتويّة وممتلئة بماء المطر الذي تساقط مبشّراً بموسم الخير، في تلك اللحظة دوّى صوت انفجار آخر تداعت له بيوت المخيم من شدّته، هرع الجميع لانتشال الجثث ليثيين لهم أن جثة علي كانت من بينها، كانت أصابعه ترتعش ونفسه تنتشي فيما كان قابضاً على البذار، انبعثت رائحة قوية نفاذّة ظلّت تبعث في جوفه صهيلاً وكأنه لحناً شجيّاً ويكاد يرى من خلال الظلمة الحالكة أوراق النعنع تملأ الأرجاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى