من حكمة العطاء في الإسلام (السمو النفسي في الأخذ والمنح)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

لا يبارى القرآن في أدب التربية النفسية ولا الروحية، كما لم يبارى في غيرها من قليل ولا كثير.. إنما هو دائما متفرد في عليائه ، يعلو على كل أدب اوتربية من موروث بشري أو ديني قد سبق عليه، وهذه التربية التي صنعها تدق حتى تصل إلى عمق النفوس ودهاليز القلوب، فتجلو عنها ما علق بها من ظلمات الشح الغريزي، أو الطمع الجبلي، وتردها إلى سمو الفطرة ونقاوتها.

وكما ذكرنا: يحفظ هذا الشرع الحنيف لكل من المعطِي حقه وأجره، والمعطَى حياءه وماء وجهه، وعزة نفسه،، ويؤكد على هذا السمو النفسى الذي يرتقى بروح صاحبه فلا تعرف المن، ولا تعقب عطاءها الأذى بالقول أو الفعل.. ولو يستعاض عن هذا العطاء في حالة الرد بالقول المعروف الذي يحفظ للسائل قيمة نفسه، ولا يجعله في صورة مزدراة أو مرذولة .. فيقول “قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)” (البقرة).. وهذا القول المعروف هو حسن الرد، والإحسان في القول  كالدعاء بالتيسيروالسعة في الرزق ،كما قال القائل :

لن يعدم السائلون الخير من خلقي .. إما نوالي وإما حسن مردودي

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل ولم يكن عنده ما يعطيه، كان يرد السائل بقوله”يرزقنا الله وإياكم من فضله” (تفسير الطبري)، أو كان ينظره إلى غد أو حتى يؤتيه الله من فضله..

وكان الشافعي رضي الله عنه يأسى على نفسه تحسرا حين يسأل فلا يجد ما يجود به، ويعد ذلك من المصائب، فيقول:

يالهف نفسي على مال أفرقه              على المقلين من أهل المروءات

إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني     ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وقد عهد عن أناس من أهل الجود سمو النفس، حتى لا ينتظر سؤالا من أهل الحاجة ، فتستشعر نفسه من تلميحه أو التعريض حاجته فيبادر بالعطاء قبل أن يبادر السائل بالسؤال,, وفي ذلك يصف الشاعر أحدهم فيقول:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني       حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما           كفاه من تعرضه الثناء

ولا يعول القرآن على هذا العطاء الذي يخرج من نفس غير راضية به، أوكارهة ، أو مرائية، أو معقبة ذلك بسوء القول.. فكل هذا مردود على صاحبه، باطل أجره ، بل ربما مأزور صاحبه غير مأجور، فيحيل العطاء إلى هذا التعبير السامق: “وتثبيتا من أنفسهم” .. أي لا تجود نفسه به إلا عن قناعة، ورضا، وإيمانا بما تصنع، راضية لا كارهة ..” وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)”(البقرة).

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)” (آل عمران).

فالسمو القرآني في التحفيز على العطاء والتكافل لا يعول فقط على انتقال الصدقة من يد المانح إلى يد الآخذ .. لكنه يؤكد أن يسد حاجة الفقر مع طيب النفس ورضاها بما أخذت من غير من ولا أذى، ويحرص على ان تبقى نفس الفقير مطمئنة راضية بما هي عليه، خالية مما يسمونه (الحقد الطبقي)، من تفاوت درجات الفقر والغنى مع غل المنع وسوء المنح.

كذلك لم يترك الشرع حال المحتاج على ما هي عليه كأمر مسلم به، ينظر الصدقة، ويظل حتى يألف التكفف.. بل يلزمه مهما كان فقره ببعض الصدقة في بعض أحواله ك (صدقة الفطر) تلك التي فرضت على كل مسلم “حر أو عبد، ذكر وأنثى، صغير أو كبير، فقير أو غني) (رواه أحمد والشيخان والنسائي).. وفي زيادة للحديث ” أما غنيكم فيزكيه الله (أي يطهره)، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى”.

وهكذا يؤهل الشرع هذي النفوس لقيمة العطاء في حالة العسر أو الفقر، حتى تكون لذلك أهلا حين يأتيها اليسر، ويغنيها الله من فضله، وقد تعهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد الله على الفقير أكثر مما أعطى، وبهذا لا تكون صفة السفلى ملازمة لهذه اليد ، بل تعود عليا ولو في بعض وقتها .

أما السائل وإن اضطرته الحاجة، وألجأته الضرورة ، فإن القرآن يربيه على هدىٍ لم تعهد البشرية مثله قط، فيذكر هذه النماذج العفيفة المستغية، التي قد يقتلها الحياء كمدا، فلا تتحمل نفسه المسألة وإن اشتدت به الحاجة وألحت عليه الفاقة،. فينقلنا القرآن هذه النقلة الراقية للنفوس المتوسمة ، وكأنه يربينا إلى ما فوق هذا العطاء البسيط، بل عطاء المتوسمين الذي يفتشون عما وراء هذا الحال الظاهر، فيعمدون إلى تحسس أحوال إخوانهم الذين قد يظهرون الغنى وباطن حالهم أنهم في شدة الفقر، فيقول:” لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)” (البقرة).

كذلك هذا النموذج الذي ألف المنح وهو في حالة اليسر، ثم تغير به الحالة إلى العسر فلم يستطع أن يغير طبيعة العطاء التي غلبت على نفسه، فلا تزال تصنع ذلك ولو اضطرها إلى عسر أشد ، فقال ” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)” (الحشر).   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى