الإعجاز التشريعي لأحكام الشريعة (الخصائص والميزات)

د. أحمد حسين ( دكتوراه في المقارنات التشريعية )

   إن الإعجاز التشريعى معناه أن أحكام الشريعة بلغت منتهاها فى الرقى و القوة و التمتع بالخلود فى بيئة منعزلة عن العالم كل أحكامها مجرد عادات وتقاليد – هى البيئة العربية البدائية.

   ومعلوم فى علم القانون الاجتماعى أن القانون لا يبلغ درجة عالية من الرقى إلا بعد أن يكون المجتمع تكامل و تطور عمرانياً وفكرياً، فالأمة الرومانية مثلاً كانت تعيش حياة منعزلة عن العالم منكمشة على عادات خاصة بها، وكانت قوانينها حزمة من الأعراف و العادات، ثم لما خرجت عن موطنها الأصلى، واندفعت نحو الشرق و حكمت عناصر أخرى من الناس اضطرت للخروج عن نطاق شرعها الضيق؛ فتطور وتوسع بخلاف الشريعة الإسلامية، فإن أحكامها جاءت صالحة لقيادة مجتمع بدائى معظمه لا يكتب ولا يقرأ، وصلحت أيضاً لقيادة مجتمع عمرانى متفتح على جميع الثقافات فهي  حكمت الأدندلس ومصر وغيرها من الأمم التي تتمتع بحضارات عريقة .

  “فالتشريع كما يوضح الأستاذ الزرقا “دائماً فى الأمة هو كالأدب فيها، كلاهما يعطى صورة عن واقع اجتماعى واقتصادى فى الأمة ، ويعبر عما وصلت إليه الحياة فيها من التطور والإدراك الاجتماعى، وبقدر ما فيه من قواعد ذات مفاهيم تشريعية عامة عالمية الاعتبار وبقدر ما فيه من توجيه للأمة نحو الإصلاح المستمر تكون درجة رقى ذلك الشرع، وصلاحية مبادئه للخلود”

الميزات الكلية للتشريع الإسلامي

أولا   – الانفتاح على القوانين الأخرى .

    الشريعة الإسلامية قادرة على استيعاب أى منظومة طالما أنها لا تتعارض معها فهى لا تقف على ما نزلت به فقط ، بل تعد كل تشريع لا يتعارض وأسسها ضمن منظومتها ، فأتاحت هذه الميزة استحداث عقود وتعاملات جديدة غير التى وردت في نصوصها – كما ساعدت على أخذ قانون العقوبات من النظم الغربية فيما يتعلق بحانب التعزيز، وغير ذلك من الأحكام والتشريعات إنها تنطلق من قواعد خالدة مثل شرع من قبلنا شرع لنا ، بل لنا أن نوسع في هذه القاعدة فنقول : كل شرع هو شرع لنا طالما لا يتعارض مع مسلماتنا .

ثانيا  – أصولها كافيه لسد نواحى كل النظريات:

    الفقه الإسلامى أغزر وأخصب جداً من كل فقه قانونى آخر بالنظريات القانونية والأحكام فى شتى الشعب الحقوقية، فقد جاء مثلاً فى أصوله وفروعه بما يسد جميع نواحى نظريات الالتزام العامة الأجنبية ، ويملأ شعبها ، ويفيض عنها كثيراً، بكثرة ما فيه من المبادىء الحقوقية المستوعبة التى يتكون منها جسم الكيان الحقوقى المدنى التى تمثله نظرية الالتزام العامة، وإن لم يرتب ترتيبها ولم يبوب تبويبها.

   حيث  يقوم الفقه  الإسلامي على أساس نظرية عامة متماسكة الأجزاء، ويتجلى فى كل مذهب من مذاهبه الانسجام التام فى تطبيقات قواعده فى شتى المسائل والفصول ؛حتى قال الراسخون فى العلم: إنه لا يمكن أن تقع حادثة ما ليس لها حكم فى الفقه إيجابًا أوسلباً .

ثالثا – كثرة المؤيدات الترغيبية الأخروية:

   الإسلام نظام  لنواحى الحياة الثلاث: الروحية، المادية ، المدنية، لذلك كانت المؤيدات الترغيبية الأخروية كثيرة جداً فى الإسلام، ولا سيما فيما يتصل بأعمال الخير، وإخلاص العمل والتضحيات الواجبة، وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة عند التعارض.

    إن كثرة هذه المؤيدات الأخروية تكمن ميزاتها فى أنها لا تجعل إقدام الشخص على العمل يكون بدافع المادة فقط ، بحيث إذا لم توجد لا يقدم عليه ، بل تجعله يقدم على فعل الخيرات الاجتماعية، وكف أذى نفسه عن الغير بدافع روحى ينشد من خلاله ثواباً أعظم من ثواب الدنيا ، فالمؤيدات الترغيبية الأخروية تحرك الإنسان ولو لم يجد مقابلاً دنيويًا.

وتظهرعظم هذه الميزة إذا علمنا أن القوانين الوضعية وضعت الدين فى منظومتها تحقيقاً لهذا الغرض.

يقول (بنتام):” يجب أن يكون سَيْر الديانة موافقاً لمقتضى المنفعة فالديانة باعتبارها مؤثرا تتركب من عقاب وجزاء ، فعقابها يجب أن يكون موجهاً ضد الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية فقط وجزاؤها يكون موقوفاً على الأعمال التى تنفعها فقط “.

   ولا يعنى هذا أن الإسلام استغنى بالترغيب الأخروى عن الدنيوى، فقد تقرر فى أحكامه أن للقائد أن يعلن للجند أن من قتل قتيلا من الأعداء  فله سلبه ؛ ترغيباً للجند وتقوية لعزائمهم.

   ومن ذلك أيضاً الطريقة التى أوجبها الإسلام فى ضريبة الزكاة على المواشى، إذ أخذ فيها بطريقة النسبية النازلة، فخفف ضريبتها بنسبة تتناسب عكساً مع كثرة ما يقتنيه الشخص منها إلى أن تثبت الضريبة على نسبة واحدة ، فيما بعد القدر الذى يستطيع الشخص العادى اقتناءه والعناية بتربيته .

فالترغيب الأخروى والدنيوى يسير جنباً إلى جنب فى الإسلام بحيث إذا ضعف الثانى قواها الأول.

   فالقانون سلك فى رد اللقطة الترغيب عن طريق اقتطاع جزء منها للملتقط ، وهذا الترغيب قد يضعف إذا كان الجزء المقتطع شيئاً غير ذي بال له، فيأتي الترغيب الأخروى ليدفعه إلى ردها بدافع الجزاء الأخروى.

رابعا  – التجرد والموضوعية فى بناء الأحكام:

  هذه النقطة تتعلق بالفقهاء أكثر منها تعلقاً بالفقه، فقد اتصف علماء المسلمين بالموضوعية فى بناء الأحكام والتجرد من كل عصبية، ويدلل الزرقا على هذا بأنهم ذكروا مثلاً : أن من السفه أن يصرف الشخص جميع ماله فى بناء مسجد من غير حاجة عامة، فإنه فى نظرهم يعد سفيهاً ويستحق الحجر.

الميزات الجزئية للتشريع الإسلامي

أولا  – الشريعة أول مؤسس للزواج المدنى:

    إن أول من أسس الزواج المدنى الذى أخذت به جميع الدول ذات الشرائع الوضعية الحديثة هى الشريعة الإسلامية ، فقد جعلت الشريعة الزواج عقداً مدنياً محضاً كسائر العقود، فينعقد و يتم وينتج جميع نتائجه بمجرد اتفاق الإرادتيين بمحضر شاهدين دون توقف على مداخلة مرجع دينى؛ لأنه لا يوجد فى الإسلام طبقة رجال دين لهم سلطة ليست لغيرهم، ففى الشريعة لا وساطة لأحد بين الله- تعالى – والناس، حتى أن النبى – – ليست له سلطة دينية يحكم فيها بمصير شخص عند ربه ، بل كل شخص يدخله فى الدين إيمانه ويخرجه جحوده .

فالزواج فى الشريعة الإسلامية هو أيسر وأقل شكلية منه فى غيرها حتى فى أحدث الشرائع الوضعية .

     إن عدم فهم أن الزواج فى الشريعة الإسلامية مدنى جعل دولة كتركيا تأخذ أشكال الزواج من الغرب ، ورتبت على هذا علنية عقد الزواج بطريق التسجيل فى السجل المدنى ، ولا يعتبر الزواج دون هذا التسجيل ولو كان مشهوداً ومشهوراً، فكانت النتيجة أن أصبحت الحكومة التركية الآن أمام مشكلة كبرى، وهى وجود جيش من الأولاد الذين يعتبرون غير شرعيين فى نظر القانون والقضاء ، بينما هم شرعيون فى نظر الشرع .

وهذا من نتائج التقليد الأعمى فى أخذ القوانين الأجنبية غير الملائمة فى مبانيها البيئية والشعب والعقيدة والأوضاع الاجتماعية .

ثانيا:  المواريث:

تمتاز الشريعة فى باب الفرائض بعدة أشياء حُرِمت منها كثير من القوانين الوضعية منها:

  1. الإرث جبرى بحكم الشرع بإرادة المورث، فليس للمورث حرمان وارثه الشرعى من حق الإرث ، وإن كان يستطيع فى حياته أن يتصرف بجميع ماله ، حتى إن الزوج إذ طلق زوجته فى مرض موته  دون رضاها اعتبر ذلك منه إساءة لاستعمال حق الطلاق، ودليلاً على قصد التهرب من إرثها، فيثبت لها حق الإرث شرعًا .
  2. إن الوارث فى شريعتنا لا يتحمل ديون المورث كما فى بعض الشرائع الحديثة اليوم ، فالإرث فى الإسلام شرع نعمة للوارث لا نقمة عليه ، فديون المورث تتعلق بتركته، وتستوفى منها قبل الإرث، وما تبقى يذهب للوصايا،  ثم لأصحاب الإرث.
  3. ليس للولد الأكبر امتياز فى الإرث أو تقدم على أخيه الأصغر خلافاً لبعض الشرائع الأوربية التى لا تزال إلى اليوم آخذة فى الإرث بهذه القاعدة (droitd’aime).

ثالثا  – الإسلام نظام يحث على إلغاء الرق، وأوصى بهم واعتبرهم بمقتضى العقيدة إخواناً، بل اعتبر إعتاقهم عبادة، وألغى جميع منابع الاسترقاق المألوفة عند العرب ،هذا مع ملاحظة أن جميع الشرائع الأخرى من دينية و وضعية لم تأت منها واحدة بالدعوة إلى إلغاء الرق ، ولا إلى تحسين وضع الأرقاء، بل ولا مهدت لإلغائه كما فعل الإسلام، بل استمر الرق فى جميع العالم غير الإسلامى فى قسوته حتى القرن التاسع عشر الميلادى .

رابعا – التشريع الإسلامى لم يتقيد بشيء من الشكليات التى لا دخل لها فى تحقق معنى العقد بين طرفيه إلا إذا كان لها مساس بالغاية المقصودة من العقد كاشتراط القبض فى عقد التبرع و الرهن، واشتراط الشهود لصحة عقد النكاح ليتميز السفاح عن النكاح، وقد كان العقد لدى بعض الامم مطوقاً مثقلاً بالشكليات:

ففى التشريع الرومانى القديم كانت لهم طريقة معروفة فى البيع تسمى (النحاس والميزان)؛ لأنهم يوجبون فيها عمل الميزان و الضرب بالنقد النحاسى عليه، وكان يشترط لديهم حضور المبيع فى مجلس البيع فلم يكن قابلا للبيع إلا الأموال المنقولة ، ولما سوغوا بيع الأراضى كان لابد من إحضار جزء من تراب الأرض؛  رمزاً إلى حضورها فى مجلس العقد كالمنقولات ! .

خامسا – التراضي الحر أساس التعاقد، فقد أقرت الشرعية لإرادة العاقدين سلطاناً محترماً فى كل ما لا يخل بمصلحة عامة – وإن كانت الاجتهادات الفقهية مختلفة فى حدوده.

وقد مرت الإرادة في العقد بأدوار فى تاريخ القوانين والتشريع لم يكن لها فيها سلطان، أو كان لها ولكنه كان ضيقاً.

فهذه من مفاخر الشريعة لا سيما إذا عرفنا أن مبدأ سلطان الإرادة الذى قرره الفقهاء منذ (12) اثني عشر قرناً، لم تكن لتعرفه أو تفهمه الشرائع العالمية و الفقه الرومانى، ولم تنتبه إليه الأفكار التشريعية فى أوربا إلا منذ قرنين .

سادسا: منع التعسف في استعمال الحق ومن تطبيقاتها:

  1.  إذا أوصى المتوفي بالثلث، أو بما دونه، وقصد بذلك مضارة الورثة فإن الوصية تنقض .
  2. من طلق زوجته في حالة المرض بغرض حرمانها من الميراث فإنها ترث .
  3. من بلغت أمواله نصاب الزكاة، ثم وهب أمواله صوريا قبل تمام الحول؛ ليهرب من إخراج الزكاة ، فإن تصرفه يبطل ويأثم .
  4. إذا بنى رجلٌ في أرضه ضمن حدودها حائطا عاليا؛ ليفسد على جاره منافذ الضوء والهواء أجبر على تعديلها أو هدمها .

     فأنت تجد أن هذه الفروع على الرغم أنها جاءت ضمن أبواب مختلفة ، حيث جاء الفرع الأول من  كتاب الوصايا ، والثاني من كتاب الطلاق، والثالث من كتاب الزكاة، والرابع يذكر استطرادا في باب المعاملات، فإن هناك فكرة عامة تجمعها تتمثل في وجود حق اُستخدِم لكنه جاء منافيا لغرض الشارع، فتمخض عن هذه الفروع نظرية (التعسف في استعمال الحق) والتي تعني ” مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعا بحسب الأصل .

  وبفضل رجال القانون  المقدرين للملح القانوني في الشريغة استطاع الدكتور محمود فتحي وهو صاحب رسالة «التعسف في استعمال الحق في الشريعة الإسلامية»، والتي تقدَّم بها إلى جامعة ليون عام 1912م، وفيها عرضٌ للنظرية باستخدام الطريقة المقارنة، ونالت الرسالة تقديرًا خاصًّا من «إدوارد لامبير» المشرف على الرسالة، فاختارها لتكون العدد الأول من سلسلة أبحاث المركز الشرقي للدراسات القانونية والاجتماعية، بعدما قدم لها قبل صدورها، وحَسْبُ هذه الرسالة أثرًا في القانون المقارن بفرنسا أن «جوسران» الفقيه الفرنسي الكبير أضاف في الطبعة الثانية من كتابه «روح الحقوق ونسبيتها» صفحات عن نظرية التعسُّف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي، واقتدى به آخرون من أتباعه. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى