حول ما حدث في ’’ طورة الغربية ’’
الدكتور أحمد رفيق عوض | رئيس مركز الدراسات المستقبلية – جامعة القدس
كانت الفضائيات تنقل ببث حي ومباشر صوراً لجنود الاحتلال الإسرائيلي وهم يعملون ببرود في هدم منزل الأسير محمد كبها من قرية طورة الغربية الواقعة غرب جنين. شدني المشهد إلى كل تفاصيله، فالجنود الذين ينفذون مهمة اعتادوا عليها منذ عشرات السنين، لم يشغلوا أنفسهم على الإطلاق بماذا يفكر أهل القرية أو بماذا يشعرون؟.
فهم لا يعرفون أن طورة الغربية محاصرة بالمستعمرات من كل جانب، وأن الجدار العنصري الفاصل سلخ عن قريتهم وأحلامهم وفضائهم غابة العمرة، وهي من أكبر غابات الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام1967، وإن هذا الجدار فرم أراضيهم وقطع صلاتهم بأحبائهم ومنع عنهم أرزاقهم وقيد حركتهم وجعلهم يعيشون الخوف والترقب ببوابات وجنود وبنادق.
الاحتلال له شكل عنيف وآخر ناعم، وإذا كان عنف الاحتلال ينتهي بإنجاز المهمة، فإن الاحتلال الناعم لا ينتهي، إن البوابات والمكعبات والأسيجة والكاميرات المبثوثة في كل مكان هي احتلال دائم، قد لا يجرح ولكنه يحول حياة الناس إلى جحيم.
إن سلخ غابة العمرة عن حياة طورة الغربية وايقاع يومها وفضاء حياتها، ليس مجرد تضييق المكان (وإن كان تضييق المكان هو تضييق في الوعي أيضاً)، وليس مجرد حرمان آخر أو استيطان يوفر مساحة امنة للمستوطنين، بل إن سلخ هذه الغابة هو تغيير في تطور الناس وتقدمهم ومستقبلهم، وإن نشر البوابات والكاميرات والمكعبات والتحكم في أوقات النشاط اليومي للناس لهو قمة الإهانة للنفس البشرية.
إن الحاجز الاحتلالي – بكل أنواعه وأشكاله – لا يهدف إلى الحصار فقط ولكنه يهدف إلى النمذجة والتأطير والإخضاع من خلال تكريس الواقع وتحويله إلى مقبول ومعتاد.
إن الحاجز الاحتلالي الذي يحمل في طياته الحجز والتضييق والتأطير وتوقع ردات الفعل يهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي ونشر الأنانية وباقي أخلاقيات العبيد.
الحاجر الاحتلالي ناعم ولكنه يملك قدرة هائلة على تعويد الناس على ما لم يكونوا قادرين على تصوره، وهو أداة باردة ومحايدة ولكنها قادرة على تعطيل المصالح وتأخير التقدم وإهدار الطاقة والوقت.
طورة الغربية، هي القلب ومرتع الصبا، في غابة العمرة عاش أبطال القصص التي قرأتها، وكل الرومنسيات العذبة التي تخيلتها في القصائد. هناك، وتحت أشجارها الوارفة والكثيفة اعتدنا أن نبحث عن لسان العجل وعن الزعمطوط وعن الفقع، وهناك كان أبناء القرية الصغيرة الوادعة يلعبون العابهم ويحكون أسرارهم ويكبرون بين يدي هذه الغابة وحضنها.
هذه القرية التي كلما كان والدي – رحمه الله – يأخذني اليها لزيارة أقاربنا في العيد، كنت أعتقد أنها خلقت من البركة والنماء، أهلها الطيبون من (ال العبادي) و(ال كبها) و(ال الخطيب)، هم جزء من طبيعة مكانهم الرخي والرضي، كانوا يكملون المشهد بمزروعاتهم ومواشيهم وأغانيهم وحكاياتهم عن أبطالهم الذين يستدعون الفخر والعز.
فجأة، امتلأ المكان بالأسيجة والبوابات والكاميرات، فجأة، يأتي أحد ما، ليقص أحد أجنحة القلب، ويصادر الحضن الأخضر، غابة العمرة، ويفصل ظهر المالح عن طورة التي لم تفصل منذ أيام الإمبراطورية البيزنطية، وفجأة تبقى شجرة العروس وحيدة على رصيف الشارع المتجه إلى أم الفحم، ليستعيد الكاتب نسيم قبها رواية الشجرة في كتاب له جميل ورائع.
الفضائيات التي كانت تبث مشهد نسف البيت، جعلتني أؤمن تماماً أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتعلم شيئاً، لا من تجاربه ولا من تجارب الأمم الأخرى.
لن يتوقف القتل ولا الهدم بهذه العقلية وبهذا الفضاء، هناك حلول وتسويات أخرى على الاحتلال أن يدركها.
لا أحد يعرف خسارة البيت إلا من بناه. البيت غالٍ جداً.