فكر

قراءة أولية في الانسداد السياسي العربي واستحقاقاته

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
        ما زال مصطلح (الأنسداد السياسي) Political Occlusion متداولاً في الأروقة السياسية العربية بكثرة، والذي يعني بقاء أي نظام سياسي عربي مغلقاً على مكون واحد ومجموعة محدّدة من المكونات فقط، كون الروابط والولاءات للمؤسسات والدوائر مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بمجموعة السلطة التي يتحكّم فيها مجموعة ضيقة لها امتيازاتها الخاصة، كما ترتبط بأصحاب القرار، والذي يؤدي بدوره إلى إبقاء مستقبل بلادنا العربية رهيناً بتوجهات هذه المجموعة التي تشكّل جوهر وبنية النظام. والغريب في الأمر أنّ تركيبة المجموعة المتحكمة بالسلطة إن تغيرت أو توسّع عددها أو انخفض، فإنّ وجودها الراسخ يبقى ثابتاً، ولا يمكن تخطيها للوصول إلى السلطة. وكأننا أمام ما يطلق عليه: (الدولة العميقة Deep state) أو دولة بداخل دولة، أو الدولة المتجذرة، وهو مفهوم شائع غير اختصاصي يُستخدم لوصف أجهزة حكم وسلطة قوية غير منتخبة تتحكم بمصير الدولة كمؤسسات المخابرات والجيش البيروقراطية المدنية أو الأمنية بكافة تفرعاتها وأقسامها، أو الأحزاب الحاكمة. وقد تتكون الدولة العميقة بهدف مشروع كالحفاظ على مصالح الدولة كنظام حكم وسيطرة، أو بهدف (مؤامراتي)، يفترض بأنّ لــ (الدولة العميقةDeep state) عناصر وقوى موجودة في مؤسسات وإدارات وهيئات ومفاصل الدولة المدنية والعسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية، هذه العناصر هي التي تعمل لتحقيق أهداف ومرامي مشتركة لها قوة تأثير كبيرة في توجيه مؤسسات وإدارات وهيئات الدولة الرسمية وقراراتها السياسية المفصلية .
     هذا المفهوم يقودنا الى مفهوم آخر هو : (الاضمحلال السياسي Political decline)، الذي يؤدي إلى إضمحلال الدولة، ومفهوم إضمحلال الدولة هو مفهوم ماركسي صاغه الفيلسوف ورجل الصناعة الألماني (فريدرك إنجلزEngels English Friedrich) الذي يشير إلى فكرة أنه مع تحقيق المُثُل العليا للإشتراكية، فإنّ المؤسسة الاجتماعية التي هي الدولة ستنتهي في نهاية المطاف، ويعفوا عليها الزمن وستختفي، وسيكون المجتمع قادراً على حكم نفسه بنفسه دون الحاجة للدولة ومؤسساتها ومنظومة إنفاذها القسرية للقوانين والتشريعات الناظمة .
     لقد قدّم المفكر وعالم السياسية الأمريكي (صموئيل فيليبس هنتغتون Samuel Phillips Huntington) فرضيته حول (الأنسداد السياسي(Political Occlusion في كتابه الشهير : (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة) ويفسر من خلا ل مقالاته وكتبه أزمات النظام السياسي التي تكون نتيجة أنعدام التوازن بين البنية السياسية والتوجه نحو سياسات التحديث والتطوير التي تريد الأنتقال بالمجتمع من نمط تقليدي الى نمط حديث. محاولاً القول أن مشاكل عدم (الاستقرار السياسي Political stability) تؤدي الى تقويض تدريجي لسلطة الحكومة ومؤسساتها وإداراتها، وتصبح الحكومة ضعيفة وهشة وغير فاعلة، وقد تفقد شرعيتها نتيجة ازدياد التظاهرات والأحتجاجات والفوضى، مما يؤدي الى بطء الأداء الحكومي، ويرافقه بطء في تطور المؤسسات السياسية وهيئاتها وإداراتها مما يزيد النقمة الشعبية على هذه الحكومة.
     في حقيقة الأمر ما زالت العديد من دولنا العربية تعاني الكثير من وجود مجتمعات مفتتة سياسياً، ومؤسسات وإدارات السلطة ضعيفة وهشّة وجامدة ولامرونة فيها، ولا تمارس حكماً وأنما سلطة لها أدواتها القمعية القوية التي تتحكّم بها بالبلاد والعباد. والفجوة السياسية تحدث عندما تواجه فعاليات وحركة المجتمع الديناميكية جمود النظام السياسي العام بحيث يعجز هذا النظام عن الأستجابة لمتطلبات الجزء الأكبر من الجماهير أو الأجيال الصاعدة وهنا يشعر هذا الشعب بالاحتفاظ بالأحباط والنكوص والارتكاس لعدم مشاركته بالحياة السياسية. وكل سلطة حاكمة تعمل على الحفاظ على استقرارها واستقرار المجتمع الذي تقوم فيه وتعمل على المحافظة على أحواله ، بهدف ديمومة استمرارها وهي مستعدة من أجل تحقيق هذا المنهج بأي ثمن سياسي يتناسب طرداً مع ذلك الهدف العزيز على كل النخب السياسية وصنّاع القرار. فكيف إذا كان هذا الهدف وتلك المرامي أقلَّ كلفةٍ عليها. وأكثر ما يعرِّض سلطة ما إلى القلق وزعزعة استقرارها هو تنامي الاعتراض عليها ورفض برامجها ومنهجها السياسي والتنظيمي في الاجتماع الوطنيّ إلى الحدّ الذي يَشْرَع فيه التّعبير عن ذلك الرفض والاعتراض في الانتقال من الضّغط المعنويّ الهادئ الناعم إلى الضّغط الماديّ العنيف الخشن ملقياً بنتائجه على تماسُك قواها العسكرية والأمنية وأوضاعها الإدارية العامة .
    هذه الحالة تقع في معظم الأوقات عندما تتعرّض السلطة إلى المزيد من الضغوط، وحين تتزايد عليها أحوال التّأزّم السياسي فتؤدّيها إلى حالٍ من (الأنسداد السياسي(Political Occlusion المُؤْذِن بالزوال والتلاشي. يتولّد الانسداد من جملةٍ من الظروف والعوامل ويتّخذ لنفسه صوراً متنوعة ومختلفة، ولكنّ الغالب عليه أن يأتيَ ثمْرةَ ظروف قاسية وحادّة وضِيقٍ حادّ في قاعدة السلطة المركزية، في مكوّناتها وبنيتها وفي جمهورها الاجتماعي الواسع، فلقد يتمظهر ضِيق نطاقِ السّلطة وما يحيط بها في شكل نظامٍ سياسي يحكمه حزب واحد هو المتحكّم الوحيد في مفاصل الدولة والشعب ومقدراته، وحُكُم أسري وعائلي يتعاقب الأبناء على الحكم بغض النظر إن اختلفنا حول هذا الموضوع أو اتفقنا، ومعظم الاختلافات حول أساس الوراثة مما يدفع للتساؤل حول كيف يمكن جعل البيئة العائلية أصلح بالاختيار وكيف نفهم حالة الولاية العامة وكيف نفهم أيضاً الطريق والأسلوب لإصلاح بنية السلطة والحكم المستند على أسس دينية؟ والولاية في تلك الحالة لاتفصل الدين عن الدولة والنظام الملكي الوراثي نظام التعاقب إلى العرش والسلطة بشكلٍ عام، وهو ما أخذت به العديد من الدول العربية الحديثة والمعاصرة .
لقد بيّن العديد من المتخصصين والخبراء في نظرية الدولة والدستور أنّ الحكام وصنّاع القرار في الدولة لا يعصيهم الإجابة هلى تلك التساؤلات، لأننا لا نبحث في منهجية سياسية محدّدة بالمعية أو بالضد، لذا نجد من الضروري البحث في العلاقة على أساس علمي موضوعي معرفي ورأي عقلاني قابل للصواب أو الخطأ ولهذه الحيثيات وتلك الحرتقات فهي تصدر ضجبجا أثناء إصلاح السلطةمع العلم أنَّ معظم إصلاحاته على الرغم من جدواها فهي غير متقنة حرفياً .
    في هذا السياق يرى الكثيرون أنه لن يكون من الأجدى التركيز على السلطة في الرأس عندما يتم استخدام التعاقب الوراثي بل الرمزية العالية والتحكيم حسب ظروف الدولة وإداراتها، والمجتمع وتناقضاته، ولأنَّ خطر تمركز السلطة الحاكمة بشكلٍ ضاغط قد يكون له نتائج سيئة للغاية حتى لو كانت مدة (تداول السلطة Devolution of power) بعامٍ واحد، من هنا فإنَّ هذا الأمر نجده ضروري وواجب لتحقيق العدالة والحقوق من جهة واستهدافها، ولعدم إلغاء الأمن والسلم الدوليين في الدول التي تمتلك قوة لها تأثير كبير في العالم .
     الجدير بالذكر أنه قد يتمظهر نظام الحكم السياسي الذي وصل إلى عنق الزجاجة وحالة (الانسداد السياسي) Political Occlusion تستند إلى منطقة جغرافية محدّدة دون سواها، كما تستند إلى عصبية قبلية أو عشائرية بعينها، أو تستند إلى طائفة معينة دون سواها، وقد يأخذ شكلَ نظام تحكمه نخبة عسكريّة وقوة مخابراتية أمنية، إلى غير هذه من الأشكال. كما توجد طبقة سياسية مشتتة لا تجتمع الّا على مصالحها الخاصة، وتتقاسم المغانم بعيداً عن النظر الى تطلعات المجتمع وأمنياته، لذلك نجد أن تغيير الحكومات المتعاقبة لا يغيّر من الواقع السياسي شيئاً، وأنما مزيد من الخراب والفوضى، ويوسِّع دوائر الفشل والفساد. وفي كلّ واحدٍ منها يتكرّر الثّابت نفسه الذي هو من تبعاتِ وأرهاصات ضيق نطاقِ مكوّنات وتركيبة السّلطة الحاكمة، بمعنى آخر ضِيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها تلك السّلطة المتحكمة بتقاليد الحكم فتمثّل لديها حاملَها الاجتماعيّ بما يحمل من وعي وثقافة، ومرجعَها وحاضنتَها اللّذيْن إليهما تؤول. ونحن ندرك مدى توضيح وشرح بيان مَواطن الخطر في صيرورة السلطة وسيرورتها إلى هذه الحال من (الانسداد السياسي) Political Occlusion ومن ضِيقِ نطاق قُواها وقدراتها ومكوّناتها، وضمور وضعف جمهورها الاجتماعيّ. وهنا تظهر ملامح الاضمحلال السياسي في بلداننا العربية التي تتمثَّل بالحركات المطلبية والاحتجاجية. يقابلها واقع سيئ جداً وحكومة عاجزة، وبرلمان محكوم بزعماء الكتل السياسية وصنّاع القرار. والملاحظ هنا ما يقدمه الإعلام العربي عن دور البرلمانيين العرب الذين يكون لهم دور إعلامي أكثر من قيامهم بدورهم البرلماني الحقيقي .
     الجدير بالذكر إنّ الخروج من هذا الانسداد ممكنٌ جداً وعسيرٌ جداً في الآن عينه، فأمّا أنه ممكن فهو كذلك، ويمكن أن يتحقق من الجهتين: من جهة السّلطة وقواها العسكرية والأمنية، ومن جهة الأطراف السّياسيّة والاجتماعيّة المعارِضة لها. تستطيع السّلطة الحاكمة أن تتدارك حالة الانسداد والإنغلاق فيها بإصلاحات سياسيّة حقيقية تقود إلى توسعة نطاق مكوناته وتركيبته. وهذا الخيارغير متاحٌ لها، لأنّ احتمالات نجاحها في فرض إرادتها وقدرتها على معارضيها من غير تقديم تنازلات ودائماً تكون التنازلات فيها مواربة حيث يبقى كل شيئ على ما كان عليه دون أي تغيير جوهري. وتلك التغييرات تخضع لاحتمالات ضئيلة جدّاً، وهي إذا ما نجحت في ذلك مرّة فإنها ستفشل عدّة مرّات وتكون النّتيجة بشكلها النهائي أن تفتح عليها موجاتٍ متعاقبةً من القسوة والعنف مترافقة مع الدبلوماسية الخشنة والوعود الخلبية. ويستطيع معارضوها، من جهتهم، أن يتخطّوا حال الانسداد السياسي إما بتغيير النّظام السّياسي القائم، أو بفرض تنازلات معينة على صنّاع القرار والنّخبة الحاكمة والوصول إلى تفاهُمات سياسيّة مطاطية على شروط تجاوُز حالة الانسداد تلك. وأمّا أنّه عسير جداً، فلأنّ العديد من القوى التي لها دور كبير من داخل السّلطة ومن داخل القوى المعارِضة قد تُفْشِل كلّ مسعًى إلى حلٍّ وسَطٍ متوافَق عليه بين الأطراف المتنازعة لإنهاء التّأزّم والانسداد السياسي وفتح شرايين السّلطة من جديد لتدفُّق دماءٍ جديدة لكنها تسير وفق منهج موضوع مسبقاً، إذ إنّ لمقاومة الإصلاح والتغيير من طرف هذه القوى دلالة واضحة لا يُخطئها حُسن التّقدير وبُعد النظر، هي أنّها قوًى طفيليّة مصلحية تتضرّر مصالحها من أيّ إصلاحٍ يضع عليها الاحتساب التشريعي والقانوني كونها تنتهج البراغماتية في علاقتها بالسلطة .
     إنّ أيّ سلطة بهذا المدلول تحتفظ لنفسها بما تملك من إمكانيات من خلال امتلاكها خيار حلّ أزمة الانسداد السّياسيّ في البلد بوصفه خياراً متاحاً وممكناً رهْن يديْها إن هي وافقت وقبلت بذلك، أي إنْ نضجت لديها إرادةُ الإصلاح والتّصحيح وأفصحتْ عن نفسها دون مواربة لما لديها بشكلٍ صادق لا مراء فيه. لكنّها قد تفقد هذا الخيار، وتفقد معه المبادرة، إنْ هي كانت بطيئة وتلكّأت طويلاً وتردّدت في الإقدام عليه أملاً في نشوء ظروف جديدة وشروطٍ جديدة ترفع عنها عبء الحاجة والضرورة إلى الإصلاح والتصحيح، أو تُسوِّغ لها سلوكَ سبيل التهرّب من المسؤولية. في مثل هذه الحالة وتلك الأوضاع، قد تنتقل المبادرة إلى معارضيها دون تباطئ. ولعلّهم يعثرون في تهرّب النّخبة الحاكمة وصنّاع القرار عن إجراء الإصلاحات المرجوّة على ذريعةٍ للرّجوع عن سُبُل الضّغط الاجتماعيّ والسّياسيّ السّلميّ لركوب خياراتٍ أخرى أشدّ قسوة مثل العنف الاجتماعيّ Social violence والعنف السياسي Political violence – أو (العنف المسلّح) Armed violence . ولقد شهدنا على مثالاتٍ لهذه الانتقالة الدراماتيكيّة المتتالية من المطَالَبات السّياسيّة بإصلاحات حالة وأوضاع السّلطة إلى ركوب صهوة العنف والقتل والحرق والتدمير وتوسُّل استخدام السّلاح في عددٍ من البلاد العربيّة، بدءاً من مطلع العقد الثّاني من هذا القرن، أي بدءاً من عام 2010 م بمناسبة الحراكات الشعبية والانتفاضات العارمة (الرّبيع العربيّ). مع العلم أننا شهدنا الأسوأ والأخطر من سلوك تلك الانتفاضات وتلك الاحتجاجات لما أنتجته الوقائع الساخنة التي تم استخدام السلام بمعظم أنواعه والذي أدى إلى تهجير الملايين من أبناء شعبنا العربي، كما تم تشريد وتمزيق عرى وأواصر العلاقات الاجتماعية وتم زرع العديد من الشروخ الطائفية والمذهبية والإثنية والتي ممكن أن تستمر تلك الآثار لعدة عقود قادمة .
     والحقُّ أنّه من مصلحة أيِّ سلطةٍ أن تعالج أسباب انسدادها وما تمر به من حالة تأزّم بالمزيد من تدريب نفسها على نهج سياسة التّقويم والإصلاح.ذلك يضمن لها الصمود في وجه التغييرات من أجل البقاء وحيازة رضى الشعب عليها. والمطلوب من تلك السلطات أن تتخلّص من القوى التي ترفض الإصلاح وهي قوى تتمركز ضمن بنية السلطة ومكوناتها الداخلية كونهم يشكلون خطراً كبيراً على بنية الدولة وهم أشد خطراً من قوى معارضة تناضل من خارج السلطة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى