صحافة صفراء ومواقع صفر

عليّ جبّار عطيّة| كاتب ورئيس تحرير عراقي

تحفل المواقع الإلكترونية بمنشورات تتحدث عن أسرار لمشاهير راحلين ، أو عن وفيات غير مؤكدة لفنانين مازالوا على قيد الحياة.
أصبح تناقل مثل هذه النوعية من الشائعات أمراً معتاداً في هذه المواقع، وهي تستثمر العناوين المثيرة لجذب أكبر عددٍ ممكنٍ من المتصفحين الفضوليين .
ولا أدري ما الفائدة التي يجنيها المتصفح من معرفته : هل تزوج الفنان سمير صبري من فتاة إنجليزية أو لم يتزوج، وهل له ابن مفترض، أو لم يرزق بولدٍ ؟ وتتوالد هذه الفبركات : خبر فاجع للفنان كاظم الساهر، مقتل ممثل دور مراد علمدار، رأي صادم للفنان حسن يوسف بشأن مشاهد القبلة في الأفلام، وغيرها.
هذه الظاهرة ليست جديدةً، أو طارئةً على الإعلام ، بل يعود تاريخها إلى أكثر من مئة وربع قرن.
يُعد الصحفي الأمريكي ارفن واردمان رئيس تحرير جريدة (نيويورك برس) أول من أطلق كناية (الصحافة الصفراء) أواخر القرن التاسع عشر تعبيراً عن الصحف التي تعتمد على الإثارة والفضائح بعيداً عن المصداقية، ولا يهمها سوى زيادة المبيعات.
وصفها واردمان بالصفراء للإشارة إلى تأثير المعركة الصحفية الشرسة التي نشبت بين اثنين من كبار أصحاب الصحف في الولايات المتحدة هما جوزيف بوليتزر صاحب صحيفة
( نيويورك وورلد)، ووليم راندولف هيرست صاحب صحيفة (نيويورك جورنال).
ولا بأس بذكر بعض المعلومات عن الشخصيتين.
ولد جوزيف بوليتزر (١٨٤٧ – ١٩١١م) في بلدة ماكو بهنغاريا، درس هناك ثمَّ هاجر الى الولايات المتحدة، فقيراً مدقعاً عام ١٨٦٤م. وخدم بالجيش الأمريكي سنةً واحدةً ثمَّ أقام في مدينة سان لويس بولاية ميسوري، وكان في وضع مادي صعب.
وجد عملاً في إحدى الصحف ثمَّ أصبح لاحقاً محرراً صحفياً.
تحسنت أموره المادية، وانتخب عضواً في أحد مجالس الولاية.
ابتدأ بشراء صحيفة محلية لاقت نجاحاً مما شجعه لشراء ملكية صحف متعثرة أعاد نشاطها، ومنها جريدة (نيويورك وورلد) عام ١٨٨٣م، ومنها ابتدأ صعوده وشهرته، تبرع لجامعة كولومبيا في نيويورك لكلية الصحافة، وخصص جائزة سنوية للتفوق في مجالات الصحافة والأدب والموسيقى التي استمرت بتقديم جوائزها حتى الوقت الحاضر .
أما وليام راندولف هيرست (١٨٦٣م – ١٩٥١م) فقد ولد في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا لأبٍ يملك صحيفة، ودرس في جامعة هارفارد، وبعد تخرجه تسلم إدارة جريدة سان فرانسيسكو اكزامنر عام ١٨٨٧م.
اشترى جريدة (نيويورك جورنال)،وعدة صحف ومجلات عام ١٨٩٤م وابتدأ بثورة تطوير صحفية لاجتذاب القراء، امتدت حتى عام ١٩٠٠م.
انتخب عضواً في الكونغرس ١٩٠٣م – ١٩٠٧م.
تعد مؤسسته الصحفية من كبريات صحف العالم حتى الآن .
حوَّل قصره في سان ريمون بكاليفورنيا إلى متحف يعد من أكبر المتاحف في العالم.
من ااواضح من هذا الإيجاز أنَّ كلا الرجلين ذكي، ومجتهدٌ، ومهنيٌّ فكيف تسببا في ظهور مصطلح (الصحافة الصفراء) ؟
إنَّ منشأ الخلاف بين العملاقين بوليتزر وهيرست كان حول استخدام رسام كاريكاتير مشهور اسمه أوتكولت (لاحظ أهمية الرسام الكاريكاتيري) كانت رسومه الكاريكاتيرية الملونة تجذب انتباه القراء المتابعين المتهافتين لاقتنائها والتي اشتهرت باسم (مغامرات الصبي الأصفر) .
في تشرين الأول عام ١٨٩٦م انتقل الرسام أُوتكولت من العمل بجريدة
( نيويورك وورلد) إلى جريدة (نيويورك جورنال) حيث ظهر الكاريكاتير فيها باليوم التالي.
أثار بوليتزر قرار انتقال الرسام أُوتكولت إلى الجريدة المنافسة مما اضطره إلى الاستعانة بفنان آخر جديد ليرسم له صبياً أصفر له مغامرات أيضاً !
كان هذا التنافس بين الصحيفتين الصفراوين بدايةً لمعركة صحفية استخدمت فيها كل وسائل الإثارة والتسقيط للحصول على قراء ومبيعات كثيرة .
كانت تلك الرسوم التي تظهر في كلا الجريدتين تدور عن مغامرات صبي فقير، ويكافح من أجل قوت يومه، وكان اسم ذلك الصبي (الأصفر).
ومن باب التهكم أطلق على هذا النوع من الصحف (الصحافة الجديدة)، أو (الصحف العارية) لكنَّ كلا الوصفين لم يصمد حين اختار الصحفي واردمان وصف (الصحافة الصفراء) عليها،فكما يقال وافق شن طبقة !
ماذا كان رد الفعل ؟
أخذت الصحف الرصينة بحملة مقاطعة لهاتين الصحيفتين، كما دعا صحفيون إلى عدم التعامل معهما، ورفع اسميهما من نقابة الصحفيين ودعوا الجامعات والكليات والمعاهد والمكتبات العامة إلى رفعها من مؤسساتها حرصاً على سمعة الصحف الأخرى.
بعد سنوات يختفي المصطلح لكنَّ آثاره ظلت مستمرة.
نبقى في الأجواء الصفر ما دام الغبار زائرنا الأصفر الوفي !
يرمز اللون الأصفر إلى الثراء ربما لارتباطه بلون الذهب والشمس، والأصفر رمز إلى الإمبراطور والإمبراطورية في الصين، وهو اللون المقدس للهندوس.
واللون الأصفر منير للغاية ومبهج، ويمثل قمة التوهج والإشراق ، وهو من أشد الألوان التي تبعث على السرور. قال تعالى : (صفراء فاقعٌ لونها تسر الناظرين)/سورة البقرة الآية (٦٩)
وورد عن ابن عباس قوله : (الصفرة تسر النفس).
وعلى الجانب المضاد فإنَّ اللون الأصفر له دلالة على وجود حالة مرضية فأبو صفار (اليرقان) مرض ينشأ نتيجة تراكم مادة البيليروبين، وارتفاع مستوياتها في الدم، وفي أنسجة الجسم المختلفة، مما قد يؤدي لاصفرار الجلد، والأغشية المخاطية، وبياض العيون.
كذلك له دلالة على النهاية لارتباطه باصفرار أوراق الشجر عند الخريف.
وتوصف الابتسامة المتكلفة بالصفراء، وعند بعض الشعوب فإنّ تلقيب شخص ما بـ (أصفر) تُعدُّ دلالةً على الجُبْن.
واللون الأصفر يدل على الوجه المناقض للفرح والسعادة، وهو الحزن، والهم، والذبول، والكسل، وكذلك الموت والفناء.
وحسب المنظور النفسي فاللون الأصفر هو لون جاذب للانتباه، حيث يتمّ استخدامه في بعض الإشعارات، والإشارات، والإعلانات، ومن ناحية أخرى فإنّ الأصفر له دلالات سلبية، فهو مثلاً يوحي بالإحباط والغضب عند كثرة النظر إليه؛ نظراً لكمية الضوء العالية التي يعكسها في العين، كما أنّ الغرف الصفراء تُحفّز البكاء عند الأطفال، لذا فإنّه في بعض الأحيان لونٌ مُحبِط.
بالطبع لا يوجد شيءٌ مطلقٌ في هذه الدلالات فهي تختلف حسب الثقافات من شعبٍ إلى آخر.
في أثناء كتابة هذا المقال سألتُ المصور الفوتوغرافي الفنان رسول علوان عن تعامله مع اللون الأصفر حسب خبرته كفنانٍ محترفٍ فقال: إنَّ اللون الأصفر ينقل إلى الإنسان التفاؤل والمتعة، كما أنَّه يرتبط في الغالب مع الإضاءة، مضيفاً : إنَّ أغلب المصورين يميلون إلى الابتعاد عن اللون الأصفر، ويفضلون التصوير في أثناء فترة الشروق، وفترة الغروب لتعطي للصورة لمعاناً وذوقاً حسياً، لكننا نحتاج بعض الأحيان للون الأصفر لإضافة لمسة فنية للمشهد.
من المؤسف أن يصل الحال ببعض الصحف في السنوات الأخيرة إلى أن تقترن بالابتزاز، والحصول على الأموال بالتهديد بنشر بعض التجاوزات، ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل الإعلام خاصةً إذا ضحى بأهم ركن من أركان الرسالة الإعلامية ألا وهو المصداقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى