الشاعرة الفلسطينية نداء يونس مع وحيد تاجا (وجهاً لوجه)
جريدة عالم الثقافة | خاص
الصمت كلام الذات لذاتها، بل حالة يتمثل فيها أعلى أنواع الضجيج
لم يتفق العالم على”خطأ” سوى الحب..الحب هو هذا هو اللامرئي، الحب الذي لايُرى لكنه يحل ولا يُعرَّفُ لكنه يُعَرِّف ولا يُمتَلكُ لكنه يَمْلِكُ”
الصوفية حامل لأكثر أبعاد الارتواء والحلول، وهي أيضا حامل لأعمق أفعال التحدي الفردي والتأثير، انها الثورة من خلال الجسد فاعلا وشاهدا وشهيدا ووسيطا وواسطة وتوسطا، إنه الجسد ودورانه حول كعبة النص/ الحب
الصراع حول شكل القصيدة في فلسطين حسم لصالح الرغبة في الثورة على القوالب والكلاسيكيات.
قال عنها الشاعر أدونيس “إن شعرها يغالب طغيان العالم”.فيما اعتبر الشاعر المتوكل طه أنها “صوت شعري يؤسس لمدرسة جديدة في الأدب الفلسطيني”، ورأت الناقدة الفرنسية لوسي غيوفي “في شعرها اختلافا كبيرا عما عرفته من الشعر العربي والنسوي بشكل عام”.. وكانت الشاعرة العربية الوحيدة التي اختارتها مجلة شعر la Poesie الفرنسية، ونشرت مختارات من ديوانها “تأويل الخطأ” الى جانب أهم الأسماء الشعرية في العالم مثل ميشلدوغيه،ناظم حكمت، ريجينا لجيلارد، مارتن روف، كلايتونايشلمان، كمال آوزار، كاتارينا فروستنسون، وغيرهم..
إنها الشاعرة الفلسطينية نداء يونس.
ويذكر أن الشاعرة نداء يونس من مواليد طولكرم عام 1977تعمل في مجال الإعلام والترجمة إعلامية منذ 20 عاما.، تحمل شهادة الماجستير في الإعلام الرقمي والاتصال- جامعة القدس والدبلوم العالي في الترجمة واللغويات التطبيقية، جامعة النجاح الوطنية، وبكالوريوس اللغة الانجليزية، وآدابها/فرعي لغة فرنسية، جامعة النجاح الوطنية.
صدر لها ستة دواوين شعرية وثلاث مجموعات شعرية في إصدارات خاصة تحت عنوان “كتابة الصمت”، و”تأويل الخطأ”،وصدر لها باللغة الفرنسية مجموعة مختارات تحت عنوان “لا أعرف الشعر” –(ترجمات). قامت بترجمة ديوان الشاعرة الصينية الالفية لي تشينغ تشاو. ولها ثلاثة كتب اكاديمية تحت الطبع
حاصلة على درع مهرجان القدس السابع للشعر والأدب والفنون.
التقيناها وكان هذا الحوار:
كنت الشاعرة العربية الوحيدة التي اختارتها مجلة شعر la Poesie الفرنسية، ونشرت مختارات من ديوانك “تأويل الخطأ” الى جانب أهم الأسماء الشعرية في العالم مثل ميشلدوغيه، ناظم حكمت، ريجينا لجيلارد، مارتن روف، كلايتونا يشلمان، كمال آوزار، كاتارينافروستنسون وغيرهم. ماذا شكل هذا الحدث لك؟
تصدر la Poesie منذ 90 عاما وتعتبر واحدة من أعرق وأقدم المجلات الشعرية في العالم. علمت بانها قامت قبل سنوات بنشر ترجمات للشاعر الفلسطيني العالمي محمود درويش فقط من بين الشعراء العرب.
في ظل هذه الإضاءات، يصبح إفرادها وبشكل استثنائي عشر صفحات كاملة لنشر ترجمات لهذه المختارات مع تقديم خاص من المترجم حدثا فريدا يضيف إلى ما رآه أدونيس وعدد من الشعراء العرب والأجانب من أن هذه التجربة الشعرية مختلفة ولافتة.
يرى أصدقائي هذا الحدث مستحقا للفخر واعترافًا متأخرًا يأتي من الخارج: تصفه إحدى الصديقات بأنه “إنصاف” ويرى آخر “أنه انتقال إلى “محيط أكبر ولمساحات أرحب، من الدائرة الضيقة التي غالبا ما تتنكر لمنابع الضياء وحتى للأنبياء، ولكل صاحب رسالة وصانع جمال. ولكن ثمة في هذا العالم الرحب من ينحاز لنفسه فينحاز للجمال مهما كان صاحبه ومن أي مكان على وجه الارض. ولعل ثمة من استطاع أن يراكِ من بعيد فأدرك شكل النور المنبثق فيك وعنك ومنك”. يسعدني هذا.
رأت الناقدة الفرنسية لوسي غيوفي في شعرك اختلاف كبير عما عرفته من الشعر العربي والنسوي بشكل عام، فيما اعتبر الشاعر أدونيس “إن شعرك يغالب طغيان العالم”. كيف ترين أنت موقع الاختلاف في شعرك.. هل هو في الشكل.. في التركيز على المضمونوالموسيقى والإدهاش بعيداً عن الغنائية.. أم ماذا؟
أريد أن أقول بأنني لا أعرف الشعر؛ وبالتالي، أحب ان أترك للسادة العارفين رؤية موقع اختلافه، ربما هناك المضمون والموسيقى لكن ليس الغنائية المعتادة في الشعر الفلسطيني والعربي كما أسلفت، قيل في شعري:”أقرأ القصائد كما لو انني التهم الكرز” وأن “الشعر في عمل نداء يونس، مثله مثل “دراهم القدرة”.قيل أيضا إن هذه النصوص محمولة على المعرفة العميقة والتجربة اللتان لم يطمسهما الحضور الفلسفي والكثافة الشفافة والنفس الوجودي والذهنية، وبلغة مائية تسحب، وليس فيها فراغات أو مساحات عبثية، وبأصالة ملفتة، وبرموز غير مستهلكة شعريًا، وبلغة طيعة ومفردات متفجرة تحمل دلالات أعمق وأبعد من معناها المباشر، متجاوزة الغنائية التقليدية في الشعر الفلسطيني إلى تكثيف غير معهود، وحيل جمالية، واختزال للجهات والمعارف، وبمباغتة للمعنى لا للقارئ. اعتقد – كنداء – أنني انحاز بشكل فطري الى ما قيل حول الدهشة، تلك الدهشة والمباغتة، والقدرة على صنعها.
قالت لوسي أن هذا الشعر مختلف جدا عما عرفته من الشعر العربي والنسوي بشكل عام، وإنني أكتب لكل النساء بروح المرأة العميقة خارج اللغات والثقافات.، وقالت أيضا وهذا مما لم أعلنه سابقا، بانها تفهم الان لماذا يمكن ان يحبني الآخرون.
أدونيس يتمتع ليس فقط بحساسية شعرية عالية، بل وأيضا بعمق معرفي وبموقف متقدم جدا تجاه الموروث الذي يَسحَقْ. هذه المنطقة تحديدا هي مجال اشتغال شعري لدي حيث إنني كامرأة أقاوم هذا الطغيان بقوتيْ الشعر والحب وانتفض على كثير من الموروث خطابيا.
بعين ناقدة. يرى أدونيس هنا على ما يبدو صوتا لا ينسخ الاخرين ولا المجتمع الضيق، صوت نداء الذي يحاول البعض قراءة ثورته تحت مظلة الصوفية سواء ببعدها المباشر أو بمعناها الثوري العميق. إن مقولة أدونيس لا تقدم هذه التجربة الشعرية في إطار مجازي ولا في إطار تأويلي بل تقدمه للقارئ مباشرة وبمعنى لا يقبل التأويل. ربما يضيء هذا الجزء من تقديمه الذي انشره لأول مرة على سؤالك عن الاختلاف:
“أنْ تقرَأ هنا يعني أن تَتَحركَ في أقالِيمَ تَرسِمُها خرائطُ علاقاتٍ جديدةٍ بين الكلماتِ وأشيائِها. تَرسِمُها كذلك المُخيِلةُ والصّورةُ، الصّبَوَاتُ الخلاقّةُ وأفرَاسُها الجامِحة. أنْ تقرَأ يعني أن تَجريَ في هذه الخرائطِ كمثلِ ماءٍ يتفجَرُ من ينابيعَ جوفيةٍ، ويحتَضِنُ طينَ التَّكوينِ، وتجَاعيدَ المَّادة. اذاً ستَرى، أنتَ القارئَ، كأنكَ أنتَ من يكتُب هذا الشِعرَ الذي تقرؤُه، فيما تُصغِي إلى أجْنِحةِ الزَّمنِ، تعزِفُ موسيقَى الكينُونَةِ في تآلفٍ أوركستراليٍّ مع أجْنحَةِ الشِّعر. هكذا، تتحَولُ اللغَةُ إلى فضاءٍ تتفجَرُ فيه الرَّغبة حُرَّةً، ويتَحولُ كلُّ شيء إلى جسدٍ، ولا تَحتاجُ المادةُ إلى أجنحةٍ لكي تطير. المادةُ هي نفسُها الجناحُ – بعيدًا، بعيدًا عن العالم اللفظَويِّ المُعجَميِّ الذي يفْتَرِشُ بسَاطَ الرَّملِ السَّماويِّ، في هذه الخَريطةِ العربيةِ المُمَزقةِ التي تتحولُ إلى سوقٍ ضخمةٍ بحجم العالمِ لغسْلِ البَلاطِ الذي تَعبُرُ فوقَه خطواتُ الغزوِ من كلِّ نوع. إنّه الفَضاءُ المَشحونُ بالطّاقةِ الخلّاقةِ التي هي مَدارُ الشِّعرِ ومَسْرحُهُ، وهي ما يَجعلُ الشِّعر حبَّاً على مُستوى الكَون.
إشارة الى أسماء مجموعاتك الشعرية. أسأل: كيف يُمكن للصمت أن يُكتب.. وبالتالي إلى أين يؤدي بنا “تأويل الخطأ”؟
الصمت كلام الذات لذاتها، انه ليس صمتا بمفهوم السكوت، وليس امتناعا عن الكلام، بل حالة يتمثل فيها أعلى أنواع الضجيج. الصمت أيضا جهل الاخرين، وعجزنا.. هذا الصمت انفعال النفسي بكل شحنته الاجتماعية، لا شك في كونه انفعالا يتأمل الخراب العام، ولكنه لا يملك موهبة التزام الصمت.
وأما الحديثُ عن الطَّهارةُ فإنه لا يكونُ إلا بالصَّمتِ،
وأما العَرشُ فإنهُ “الصوفا” في زاويةٍ
نُحَرِّكُ منها العالم.
لم يتفق العالم على “خطأ” سوى الحب؛ طالما كان هذا اللامرئي الأعظم منبوذا ومطاردًا ومحكومًا عليه؛ طالما كان تأويل هذا الخطأ ومحاولة تفسيره ممارسة فردية لا تقدم سوى المزيد من القداسة للمقدس، ربما كان هذا التأويل ثورة على الاحكام، ورفضا لمنطق الآخرين ومواجهةً، هل يضيء هذا على فكرتي التأويل والخطأ؟
قد يكون تأويل الخطأ صواباً، انا هنا لا أحكي عن الخطأ الذي يمكنه ان يكون صوابًا فقط لكنني انحاز الى التأويل – تأويل الحب الذي صدر في ثلاث مجموعات شعرية- والذي لا يعمل ولأول مرة في شرقنا العربيكسيف ايديولوجي يذبح به الجهلة والمنتفعون النص الأصلي محولين مقولاتهم البشريةالى مقدس. تساءل بول ريكور: كيف يكون الخطأ ممكنا إذًا، كان الكلام دائما يعني أن نقول شيئا؟ كيف يمكننا أن نقول ما ليس بشيء؟”. من خلال إعادة تعيين التأويل وأفهمته، يؤدي الشعر وظيفته: خلق مدلولات جديدة لدوال معروفة، تدمير للسياقات وبناء أخرى، وهكذا الحب، فعل الصمت الأكثر ضجيجا، فعل الضجيج الأكثر هدوءً. بهذا، تصبح الكتابة فعل تجسيد، صمتٌجسدٌ له صوت. يقول أحد النقاد ” ليست نداء يونس في هذا السياق مريدة فحسب، بل هي في مقام الوصول الجمالي وقد أدركت وجودها في الإطار الكوني وباتت ترى المعرفة في نصها ……….. كتابة الصمت هو صوت الكتابة …. لعارفة هي اليوم عرافة”. قلت في نص لم ينشر بعد:
مجانية التذاكر مثل مجانية التأويل
مثل اي شيء مركزي
مثل الهوامش
مثل الشارع العام أسفل البيت
مثل الطريق الهامشي
عند فتية يصعدون بايد متسخة
بالشحام والفقر
وقلة الحيلة
والرغبة
الى لغة الورد،
مثل ما لم يحدث
بين جسدين اختارا الاشتباك في مغامرة أرضينية
مثل الانزلاق في الطقوس
التي وجدت لنقرأها لا لتعلق عليها
مثل الرمال التي تدخل البيوت بالخطأ
مثل الخطأ الذي نكنسه
بينما نردد في الصلاة اننا نتطهر
وأننا مزقنا اجسادنا على السياج
بين حياتين
او رغبتين
كي نوقف تدفق الاحصنة
وأننا صنعنا تماثيل كي نحطمها
وأننا حطب لنار عظيمة
وأننا ولدنا كي نبتلى
وأننا ننجو
من طريق اللوز.
في حوار سابق قلت عن مفهومك للحب “لو عرفت الإجابة، لو عرفها أحدهم، لقيلت قصيدة يتيمة، ومات الشعر” الآن ماذا تقولين عن الحب بعد كل هذا الإبحار العميق والبعيد بحثا عنه؟
ما زلت أبحر ولا أدري أفيه ام منه أم اليه، لكنني:
لا اترك جلدي معلقا على اشجار التوت حين ادخل النهر
ولا قلبي حين ادخل الحب
ولا ملح دمعي حين تغدو كل اعضاء الحلم
دوائر الكترونية مقفلة
على شيء
ربما يكون الرغبة.
اشتغل على الاشياء الصامتة،
الحلم مثلا
قبل ان يصير الجنون الذي اعلقه مثل الملصقات على جدران اللغة
التي تصلح شريطا للذكريات
اقصه
ثم اتركه في خزانة
او ارسله بالبريد للاأحد.
لي طريقتي في ان لا اقول،
ان ادخل الصمت العمودي من باب خرافي
وانصهر في الضجيج
الذي يتواصل على خط الافق
تتبعني الذئاب.
لي طريقتي ايضا في ان اقول
أقف مثل تمثال جنائزي “فانجي” فوق تابوت
واطل على المشهد السوريالي
على تفسخ الاشياء
بكل حمولة الرمز
التي ستجعلني حيا وخرافيا
ومشرفا على الملكوت.
رأى الشاعر المتوكل طه أن الثيمة الرئيسة في نصوص كتابة الصمت تكاد تكون الحرمان أو العطش. ما رأيك؟
وصلني الكثير الكثير من مما كتب حول هذه المختارات، أسعدني جدا تنوع الآراء وتعدد الرؤى.. تعلم ان النص الذي يقرأ مرة واحدة يموت وان النص الذي يقرأ على وجهة واحدة ينتهي.. لا يمكنني ان أتفق او ان اختلف ولا ان انحاز الى قراءة بعينها، لي ان اكتب فقط، اما القراءات فهي استطالات تضيف ابعادا واضاءاتٍ تجعل من تجربة الكتابة مغامرة تستحق ومن الشعر سلطة مضادة للجاهز والقوالب والمعرفة التي تم انتاجها بقياس محدد.
أرى ان كل مقولة في النص استجابة لغواية الأسئلة التي يطرحها الشاعر وكسرًا لتوحشِ المألوف وقبحه، وهذا مما يثير في النفس تجلٍ لولا انه يعكس أيضا من يقول وبهذا يصبح القول فعلا مشتركا بين الكاتب والقارئ في النشوة والوصول.
على صعيد شكل القصيدة. هل يمكن القول ان الصراع في فلسطين قد حسم لصالح قصيدة النثر؟
كنت أحب ان انحاز الى فكرتي البسيطة بان القصيدة توحَى كما هي، بشكلها الذي يشبهنا، بعيوبها التي تشبه نقائصنا وبالشكل التي نحب به ان نواجه العالم، والى قناعتي بان القصيدة تدريب على ترجمة مستمرة للذات وتفاعلاتها مع محيطٍ ليس صدفة انه غير مستقر بالمطلق، لهذا لا يمكنني ان اتجاهل ان القصيدة معركة مع كل شيء، واعلم انها قد لا تنتهي بالنصر دائما، لكنني اعتقد ان الصراع في فلسطين قد حسم لصالح الرغبة في الثورة على القوالب والكلاسيكيات. لم يعد ثقل لحظتنا الوجودية ولا ازماتنا بدءا من الذاتي مرورا بالاجتماعي وانتهاء بالسياسي محتملًا.
وكما ان الفلسطيني لا يحتمل الكثير من قيوده فان قصيدته تنحاز الى ما اسميته سابقا معبد الخراب المقدس. ان الحرية ليست فعلا سياسيا بالمطلق بل فعل يومي وبأبسط الأدوات، كما ان الحرية اكتشاف فردي وممارسة أولى مثل تعلم اللغة، انها عكس الحب الذي لا يعرف حين يحضر التأتأة.
يلاحظ القارئ لشعرك بشكل عام جنوحاً إلى البوح الأنثوي والعشق الصوفي، حتى ان البعض رأى في قصائدك ـ”صوفيّة جديدة للجسد”، فما سر الربط بين هذه الثنائية التي قد تبدو في كثير من أعمالكِ؟
الصوفية هنا حامل لأكثر ابعاد الارتواء والحلول، وهي أيضا حامل لأعمق أفعال التحدي الفردي والتأثير، انها الثورة من خلال الجسد فاعلا وشاهدا وشهيدا ووسيطا وواسطة وتوسطا، انه الجسد ودورانه حول كعبة النص/ الحب او سمِّ ما شئت من أفعال الحرية وتجلياتها، فما من صوفي الا وتجاوز حتى فاض وتحدى حتى أرَّقَ، واسترق ذاته حتى رقَّ وعزَّ بها حتى جلَّ، وقضى في الحب حتى بقي. ما من فعل ثورة ما زال ينبض في اوردة التاريخ كالصوفية التي اوجزت فشرحت وكثَّفَتْ حتى كشفت وكانت مكانا للحلول والاتحاد لا الرحيل ولفعلٍ يُبذَل للوصول لا للتلقي كما هو الحال في الحب التقليدي. الصوفية هي فعل الثورة الأوحد الذي لم يصبح تاريخا بل كتب التاريخ وفعل الحب الأعظم الذي اجتمعت فيه العقوبات كلها من قطع للأطراف وقتل وحرق وذرٍ للرماد في الريح، انها فعل المحو الذي كتَب.
أي طقس للحب يليق سوى تنورة العاشق، واي جهل؟ ولا اقصد جهل العارف عند تمام المنزلة بل جهالة الرائي عند اكتمال الاستدارة؟ الجسد الصوفي ثائر وعاشق؛ هل لي بوسيط أعظم، بثنائية أجلَّ، كي تحملني ونصي؟
هذا الجسد خارطة
بلا شواطئ
بلا طرق
بلا رمل
ليس أكثر من كاليغرافي،
كتابة بيضاء بيضاء
على حجر اسود.
في الحب والتصوف؛ من رأى فقد علم ومن علم فقد استدخل ذاته منزله لا يبلغها الا الشفيف المتمرس ومن دخل فقد استبطن، وأما هذا الذي رأى فقد انكشف إليه عشق؛ كان الجسد فيه مسرحا لتظهير الحب واظهاره، وهذا التجسيد هو المنحى البشري الطبيعي خارج القيد والتعاليم لتجسيد اللامرئي الأعظم: ألم يقل: “عجلا جسدا له خوار”.
الحب هو هذا هو اللامرئي، الحب الذي لا يُرى لكنه يحل ولا يُعرَّفُ لكنه يُعَرِّف ولا يُمتَلكُ لكنه يَمْلِكُ، اما والحالة هذه، فلا تجلٍ أعظم من الصوفي لتجسير هذه العلاقة بين الرغبة وتحققها، ليس في بُعد “الحرمان” لكن في بُعد “السِّوى” والامتزاج.
يرى أحد النقاد أن ” المرأة تعرف مسبقاً، عندما تختار الكتابة، “أنها تدخل معركة كبيرة واسعة ومثيرة قد تربح فيها ذاتها الكاتبة وتخسر فيها ذاتها الجماعية التي تقف عائقاً مستمراً أمام تطلعات الكتابة، ورغباتها المتوحشة”، ما رأيك بهذه الرؤية…؟
اتفق تماما. نحن الشاعرات نعلم حين يقع اختيار الغيب علينا اننا سنكون أيضا امازونيات، محاربات بثدي واحد وبقوس مشدود دائما وبحواف حادة لأحلامنا، ندخل معارك كثيرة: معركة الوعي وكسر الزائف المعرفي المفروض باسم المقدس وهذه لا يمكن تجاوزها دون معرفة؛ ومعركة الخوف من المرأة التي تعرف لان المجتمعات وتحديدا العربية كما أنظمة الحكم سواء ليبرالية رأسمالية او دكتاتوريةتعمد الى التجهيل وتخشى معرفة التابعين – رجالا ونساء – لان للمعرفة متطلباتها التي لا تقبل أي سلطة سواء ابوية او مجتمعية او سياسية او دينية باستحقاقاتها والنتائج المترتبة عليها، وبالتالي، تخوض الشاعرات معركة ضد الاضطهاد والاستهداف والتقليل من شأن المنتج الفكري وحروبا ضد التهميش والتحريض والرقابة والمحاسبة والتخويف وضد التحكم في الدخول الى الخطاب السلطوي بمنع الشاعرات من اللقاءات والمهرجات والامسيات وحتى طباعة منتوجاتهن، وبالإضافة الى ذلك، يتم اقتراح بدائل في اطار الشللية والمعرفة والأبوية، وتخوض الشاعرات حربا ضد محاولات الحديث بالإنابة عنهن من خلال خلق نماذج نسوية تقدم على انهن شاعرات لكنهن يعكسن صورة سلبية عن الشعر والشاعرات ويصبحن حجة على ابداع الاخريات؛ هناك حرب ضد التهديد الذي يصل أحيانا الى الإساءة الجسدية للشاعرة او من يدعمها. مررت بهذا كله تقريبا.
في ظل كل هذا، الوصاية والحدود والتمثيل، تخسر الشاعرات ذواتهن الاجتماعية التي تقف عائقا امام المعرفة، اما رغبات النساء المتوحشة، فلا يمكن قتلها حتى تحت الشادورـ اذ ابتدعت الشاعرات الافغانيات – البشتونيات وسائلهن لتجنب هذه المعارك بتأميم الشعر الذي يقول رغباتهن صريحة ومدهشة – أي نسب ملكيته الى لاأحد، والاكفاء بترديده جماعيا مغنىً وهذا ما اسميته في احدى مقالاتي بالكتابة من تحت الشادور.
في عالمنا العربي، تلجأ الشاعرات اما الى إعادة انتاج المجتمع بحدوده وقيوده او يقمن بتشفير المعاني فيصبح الشعر غامضا ومسخا يزاوج بين تطلعات الكتابة والقيود، أو يكتبن رؤيتهن التي تجرح الوعي والموروث وتدعوالى المساءلة او تقدم البدائل؛ إنهن يخرجهن على سلطة الجميع.
تتعرض النساء لاستهدافات معلنة وخفية، لعنف رمزي غالبا واقصاء. يمكن ان نحدس ذلك من خلال حجم الخوف ومرآوية المنتج الشعري للواقع، كما يمكن ان نلمسه من الاهتمام بتلك الكاتبات اللواتي لا يقدمن شيئا في إطار مفهوم الشعر كسلطة أو مفهومه كنبوءة أوحتى على مستوى طبيعي: المستوى اللغوي والتركيبي.
يمكن مساءلة الكثير من الأشياء، ويبقى القمع في إطار كل تلك الممارسات فعلا سلطويا يمارسه البعض لغرض اكتساب الشرعية المجتمعية، او السلطة لأن التصنيف والتسمية سلطتان أو لخوف حقيقي من التغيير بكل حمولته على مراكز الهيمنة المألوفة. يقول صاموئيل بيكيت “ينبغي الاستمرار، لا يمكنني أن أستمرَّ، يجِبُ المُواصلة، ومن ثَمَّ، عليّ أن أستمِرَّ، يجب قولُ الكلماتِ، وطالما هي موجودة يجب قولُهَا”.
الواقع “كلب لا ينبح لكنه يصيبني بالصداع”
انتقدتِ أكثرَ مِن مرّةٍ مُصطلح “الأدب النسائيّ”. ولكن القائلين به يرون انه سيكولوجيًّا: للكتابةِ خصوصيّةٌ تنبُعُ مِن الجنسويّة، وثقافيًّا للمَرأةِ أساليبُ وطُرُقُ تعبيرٍ تُميّزُها، ولُغويًّا: للمرأةِ لغةٌ أنثويّةٌ وخطابٌ، وضميرٌ، وسردٌ أنثويٌ رومانسيّ خاصٌّ مُختلفٌ عن الرجل! ما قولك؟
اتفق ربما لو عنى هذا المصطلح موضوعات الكتابة، وليس جنسوية الكاتب، بهذا، يمكن القول بان رجلا ما يكتب ادبا نسويا أيضا، وهذا صحي، اذ لا أستطيع ان اتخيل ان هناك لغة ذكورية أو ضميرًا ذكوري او سردًا رومانسيا ذكوريا مثلا، هل يطال الانقسام اللغة ام انها وسيلة لتقييد الكاتبات في اطر لغوية محددة وغير واضحة المعالم. أتساءل، ماذا لو كتب النساء بـ “لغة ذكورية”، هل يصنفن في إطار “الادب الذكوري”؟
أعتقد ربما أن خصوصية الادب واختلاف هينبعان من الوعي والتجربة، وفيما يمثل الوعي مسالة فردية، تمثل التجربة ذاتها مسألة إنسانية، وكلا الامرين لا علاقة له بالجنسوية، وبالتالي، تؤثر الثقافة والمعرفة والوعي والجرأة والاستعداد لخوض المعارك ومدى الهامش المتاح في إطار القيود الفكرية والمجتمعية وموقع المرأة من التغيير على شكل الخطاب الأدبي وتشكله سواء لدى المرأة او الرجل.
هناك ادباء كتبوا على لسان المرأة أفضل منها، الكثير من النساء حين يكتبن ما يردن يرتدين الشادوراو يتعرضن للمحاكمة؛ لا أدبهن.
ربما الامر ابسط من هذا، بالنسبة الي، لا افكر داخل الأطر؛ الكتابة فضاء للحرية وكل نص يستدعي هويته اللغوية والأيدلوجية وتقنيات السرد الخاصة به، الأهم ان نكتب وننتج ما يحدث تغييرا في البنى الثقيلة والوعي المتكلس.
يخطرني سؤال هنا عن دور الشاعر ووظيفة الشعر.. وهل على القصيدة أن تؤسس لعالم جمالي أم تخلق واقعاً أم تقترب من هذا الواقع.؟
أكره أن يكون الأدب وتحديدا الشعر مرآة للواقع: ليس لأنني لا أؤمن بالدور التوثيقي للشعر والادب الذي قد يتبناه البعض في محاولة لتحويل الشاعر الى مؤرخ فقط، بل لان الواقع فعلا أسوأ من ان نعيشه مرتين، أتكلم هنا كعربية وكامرأة؛كما أقول هذا ليس لان الشعرلا يمكنه حمل السردية بل لأن الشعر والجنون طريقتان قديمتان قدم الوعي ذاته لتحدي سلطات الخطاب القائمة في كل عصر؛ انه سلطة موازية قادرة على خلق آفقها وتشريعاتها ودلالاتها الجديدة، فلماذا ينبغي ان نقبل بأن يفرغ الشعر من ماهيته السلطوية والرافضة وان يتم تدجينه ليصبح جهازا ايدولوجيا لسلطات الخطاب وبوقا لها؛ أو درسا في كيمياء الخوامل.
الشعر رئة للحرية ووصفة العارفين لتجاوز الحدود التي وضعت وطريقة الواصلين للخروج على منطق الأشياء الاعتباطي، وتأريخ شخصي لكيفية الرؤية الفردية للعالم وانتقاده وإعادة كتابته، إن الشعر هو الحميمي في مواجهة الوحشي، والداخل الذي فيه الكون في مواجهة الصحارى في الخارج، والبئر الذي تغرف منه السماء امتدادها. ان الشعر لا يترجم موت الفاعل/الشاعر بل يقر بوجود فاعل مفرد قادر على إعادة الخلق، وليس من وسيط سوى اللغة كي تعاد أفهمة الأشياء ومعيرتها، لأنها الوسيط الأول حيث يتم ممارسة سلطة كي الوعي وتحديد مجال الأشياء ورسم المرجعيات والحدود،وغالبا من خلال التأويل والتفسير وفرض المقدس كحد لا يسمح بتجاوزه بينما وراء الحدود الكثير.
ترى الآن لماذا اتهمت قريش النبي المجدد محمد بالشعر والجنون؟ ترى الآن لماذا يحاول رأس المال الأدبي وضع قوالب عمرية – أقل من 40، او معرفية مثل الكتابة في مديح إحدى زوجات الرسول او مناسبة ما مثلا شرطا للحصول على أعطيات سلطات الخطاب والتي تحصر الجمالي في الأيديولوجي وتقتل الذاتي وأي صوت يؤسس لمعرفة خارج الحدود – كما ورثناها.
ما هو شعور الشاعر المبدع وهو يقرأ يوميا عن “موت الشعر” وازدهار الرواية والسرد؟
لا أرى موت الشعر بل موت القارئ، علي هنا ان اضيف انني لا اؤمن بما يقال عن نخبوية الشعر فهو كأي حقل معرفي يحتاج فهمه الى قارئ مطلع ونخبوي أحيانا حتى يمكنه فكفكة الدوال ومدلولاتها الجديدة والعلاقات التي تحيل اليها الأشياء واستدعاء المعرفة لفهم إعادة كتابة الواقع.
إن التحول الذي تنحى اليه مجتمعاتنا في ظل ما بعد الحداثة الى الاستعراض والفرجة والاستهلاك السطحي لكل شيء، ينعكس سلبا على قدرة القارئ على التفكيك: تفكيك البنى والصور والاساطير والاحالات والقفز من السطحي الى المعنى الاعمق والاتصال بعوالم ابعد من اليومي والمتاح،كما انه يقتل المخيال كما تقتل مرحلة ما بعد الحداثة كافة المرجعيات والروابط المؤسِسَة، بالتالي، يصبح من الطبيعي أن يرتاح القارئ مع النص المباشر الأقل قدرة على التحليق والأكثر تكلفة في الفهم والاستعداد للتلقي دون متطلبات معرفية او شعورية. الامر صار ظاهرة حتى في السلك التعليمي اذ يلجأ الطلبة الى التلخيصات للملخص الذي يتم انتقاؤه أصلا، وفرضه، وللإجابات الجاهزة.
الشعر تمرين في التكثيف بينما السرد تمرين في الكلام، وهذا ما يقدم براهين على ان المجتمعات البشرية تعود الى مجتمعات القبائل الأولى، مجتمعات السمعي والصوتي، لكنها القبيلة الرقمية الان ما يتداول المعرفة بقدر أقل من التخييل وقدر أكبر من الاثارة والتوتر والاستهلاكية التي يتميز بها السرد سواء الإعلامي او الروائي.
وأما الفَهمُ فإنهُ مُرادُ اللذينَ اعتادوا الرَّاحةَ مع النقَطةِ آخرَ الجملةِ،
وهذا ليسَ مرمَى العاشِقِ ولا مقصدَ كلامٍ يقطِّرهُ في مختَبَرِ اللُّغةِ،
ويتَكثَّفُ،
ثم يشفِّ حتى يُخفِي الوجودَ ويسيلُ
حتى لا يُصبِحَ لأيِّ حجرٍ قدرةٌ على ادعاءِ الصَّلابَةِ،
ففي العشْقِ لا تكونُ الصَّلابةُ إلا بمقدارِ السَّلامةِ من وُعورَةِ الذي لا يُرَى،
ليسَ “هو” بل “أنا”.
سؤال أخير.. نشر قصائدك في المجلة الفرنسية، ومديح ادونيس لشعرك وقبله كلام العديد من الشعراء. هل أدى هذا الى زيادة مستوى النرجسية عند نداء يونس؟
أنا لا أكتب بل ألعب لعبة مذهلة ومدهشة. كتبت سابقا عما أريده من الكتابة:
ماذا أردتُ من الكِتابَة؟
نافذةً تُطِلُ عليكَ؛
ومن الحَربِ؟
نافذةً تُطِلُّ عليَّ.
أُحِبُّ أَغرقُ أنجُو أسْقُطُ أعلُو أُضِيءُ أخْبو أحبُو
أُلْحِدُ أُؤْمِنُ أدُورُ أَقِفُ أَحضُرُ أَغيِبُ
أَسْجُدُ أقًومُ أُخلِقُ أُخْلَقُ أَجْبُنُ أحَارِبُ أَختَنِقُ
أَهْتَزُ أَثبُتُ أُصْغِي أَحكِي أَصْمُتُ
أصْعَدُ إلى مركَبٍّ جنائِزيٍّ أُصلّي عليَّ
أشْهَقُ أبكِي أَحنُّ أَشِّفُ أَجِفُّ أَرْجُفُ
لكنني لا أضعُ فواصِلَ بين هذه الحَالاتِ/الُّلغَةِ
لهذا يظُنُّها الجميعُ كلمةً واحِدةً
أَصرُخ.
أحسُّ بالذَّنبِ بلا سببٍ،
زيادةٌ في التَشَتُتِ لم أعهدْها،
الغيمُ مقطرٌ في الأفقِ مثلَ رحيقِ الوردِ في القَواريرِ
التي أشبِهُها:
في القابِليةِ القُصوَى للانْكِسَارِ،
كما في القابِليةِ القُصوَى للاحْتِواءِ،
كما في الشفافِيَةِ.
الحبُّ يعبُرُنِي ولا يقِفُ،
لكننِّي أُضيءُ مثلَ وجهِ اللهِ،
اَعلو مثل نخلة ٍفي كتابٍ،
أُضيءُ؛ ولا أرَى إلا بعينَين مقفلتَيْن.
منذ ان قدمني أدونيس الى العالم – أي منذ عام تقريبا، كتبت نصين فقط، نشرت أحدهما وحاز على اجماع لافت فيما حصل الثاني في دائرتي الضيقة – مختبري الشعري الحي- على بطاقة حمراء لتجاوزه الحدود وثناء على جماليته اللافتة وسيتم نشره كما هو. إذا، صرت اكتب اقل وأفكر أكثر ليس بسؤال الضفة بل بهاجس الماء، أفكرلا بكيف احافظ على ما وصلت اليه، بل بالطريقة التي اتجاوز بها ذاك المستوى الى قمة جديدة تدهش أكثر وتستجيب بشكل أكبر لحساسية المعرفة وعلاقتها بالشعر سيما في ظل التوجه التجريدي لما اكتب والتكثيف العالي للغة.إذا، لماذا لا نفترض ان “المديح”، إذا تجاوزنا التسمية -يؤدي الى الخوف، والمزيد منه؟ ما فعلته فقط أنني:
اشعلت النار
كي تختفي الظلال
لم أفكر بالذئاب التي في دمي
ولا بالعتمة…
ان بلوغ قمة ما ليس اهم ما في الأمر، بل القدرة على اكتساب لياقة لغوية وفكرية ومعرفية تحمل من قدمني سابقا ومن قرأنيالى أعلى الدهشة والادهاش. فقط:
أريد أكون التفاحةَ والسهم
وهذا التداخل يحدث.