محمد عليه الصلاة والسلام، الإنسان الذي أوجز تاريخ الوجود والموجودين
أجدور عبد اللطيف| المغرب
مذ أضحى غلاما به فتوة وهو يهدي بهذا الطبع الأسيل، لا يكف جوفه لعب أطفال ولا شغب فتيان، ولا تروي فضوله مغامرات صبيان،كما لم تكن تستهويه هواياتهم وانشغالاتهم بحال، على أنها كانت من المعتاد بين أقرانه ومن العرف عموما.
ظل منكفئا على ينابعيه الداخلية التي تتحضر لتتفجر منها حكم السماء والأرض، يتحينها ويحني لها الفؤاد والعقل، يتحسس ما يوقن أنه غير ما أوتي غيره من البشر، دون أن يلم جملة بمغزاه وكينونته ومآلاته، دائم التفكر عظيم التساؤل، جميل الصمت والتبسم كثيرهما، نادر الحديث والكلام بليغهما شأن من له من أمارات الحكمة الحظ الوفير، دائم الخلوة منصتا لصوت الموجودات التي تصدح بنور الحق وتشير إلى سر الخلق وتدل على واضح السبق.
انقطع عن زيادات الأمور وحواشيها، ولم ينقطع عما يصلح به الحضور البشري ويقوى لرجاحة عقل منه وموازنة نفس واضحة المعالم منذ فجر تاريخه، فقد زاول الرعي وجاور الإبل واعتنق الصحاري ورحابة الكون الفسيح وطالع فيها ملامح البارئ، وزاد اشتداد جسده وخلده فيهما وازدادا صفاء، امتهن التجارة وزاولها، وامتحن الناس طبائعه وعاينوها، فلم ير كمثله عدلا ولا قسطا ولا أمانة ولا صدقا فاستحق منها لقبه الذي عرف به قبل أن يصير له بينهم كبير شأن، فاجتذب إليه بنت خويلد على ما فيها من رفعة ونبل ومكانة بين قومها، أحبته لما عز فيه وشح في غيره من الخصال السمحة المتواترة، حتى لامس الكمال خلقا وخلقة.
بلغ الأربعين ومعها بلغ أوجه ما به من حكمة وتدبر، وأصبح مستعدا لتحمل أمانة السماء التي تنوء بها الجبال، فتحملها قلبه بجلد واقتدار، يفزع لجلل الأمر وهو خال بنفسه في الشعاب وتطمئنه التي اختارها بعناية ليوم كهذا، والله لا يخزيك الله أبدا.. كيف يفعل وأنت من أنت! والله أبدا لا يفعل، لفظات حلت بقلبه عقد الجزع وسرت عن نفسه ما تجد من روع ورهبة، تهيأت فتواتر إليها وحي السماء يشفي الغليل ويصدق ما تعاينه الأبصار وتجده القلوب، وتخبر به الأقطار والسهوب.
أوذي فاحتمل وتجلد وصبر، وكذبوه لكبْر في أنفسهم ما هم ببالغيه وهم من يقدمونه ويوكلونه أمرهم قبل حين، رموه بالشعوذة والجنون والشعر وهم يوقنون أنه لذلك كله غير أهل، يقول أحدهم عندما جاء ليثرب مهاجرا، “فلنا رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب”.. أغروه بمتاع الحياة لكن أنى لمن شاهد الثريا أن يسلم للثرى، ظل حليما رفيقا مشفقا عازما واضحا، لا تعجزه مطبات الطريق ولا مغرياتها، فحاز القلوب الصافية وتعلقت به النفوس الباحثة على الحق، القانعة المصرة على الصدق.
يسير في طرقات أم القرى المباركة. يأنس ويؤنس القوم، يتأمل ويأمل، يفتقد الصحاب ويتفقدهم، يجذبه أعرابي جذبة من تلابيب ثوبه حتى بان أثر الثوب على الجلد الشريف الناصع، مستعطيا إياه مالا، يهم به الرفاق لكن الرفيق المترفق يتبسم ويجيب الطالب الفظ لطلبه وزيادة.. يبول آخر في المسجد فيهمون به مجددا، فيردهم عنه ويحنو عليه، فيقول جملته التي أوجزت الفروق بين النبي وبين غيرهم من الناس : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا.
يجالس نفرا من الناس ذات مرة ويشرب لبنا بيده، وعلى يمينه غلام صغير، وعلى شماله علية القوم وأشياخهم، فَقالَ لِلْغُلَامِ استحبابا واستحسانا لكبر السن وللتأدب لا لكبر الإسم والنسب: إنْ أذِنْتَ لي أعْطَيْتُ هَؤُلَاءِ، فَيرد الغلام واثقا من عدله : ما كُنْتُ لِأُوثِرَ بنَصِيبِي مِنْكَ يا رَسولَ اللَّهِ أحَدًا، فَتَلَّهُ في يَدِهِ، فأي كبير – وهو أشرف الأنبياء وخاتمهم، – يؤثر صبيا ويستأذنه؟ ويطيعه بل ويجالسه ويدنيه إلى يمينه؟ لا أحد غير من أوتي مجامع الخلق ومنابع الحق عليه شآبيب الصلوات والرحمات والمحبات.
يستأذن أصحابه ويشاورهم وهو لذلك غير محتاج، يعطف ويأخذ بخواطرهم، يوصي بالنساء ويعلي شأن من يعلي شأنهن، يسلم على الصبيان ويحدثهم حديث الكبار، يرق ويحنو ويدمع لكل حادثة وحديث، لا يلين في الحق ولا يستكين، يقف في طريق الظلم ولا يرتدع عن مناكفته ولو كان على حساب حياته وراحته ووقته، يعلمهم أن الحياة سبيل نماء ونضج، ومحبة وخير واهتداء وبذل إلى أن راح ولم يرح ولم يبرح.
يقول عنه شاعر ألمانيا العظيم كما يلقب فولفانج غوته: لقد بحثث في التاريخ كله عن شخص أتخذه قدوة، فلم أجد أحدا كالنبي محمد، بل إنه كتب فيه قصيدة مدح تنضح جمالا وأبهة.
راح صلى الله عليه وسلم ولم يبرح مكانه، وهو يخلف أقواما بعد أقوام من المحبين الشرهين، وشعوبا بعد أخرى من العشاق الولهين، وتركها خالدة في عقبه أن الخير في الإنسان كثيف ما حرص على تنميته واستجلابه، وأن الشعار الخالد هو الحب والرحمة ما دامت السماوات والأرض وما بينهما، فما أرسله تعالى إلا رحمة لهن جميعا.