حكايا من القرايا.. بديع والموال

عمر عبد الرحمن نمر| فلسطين

    نشأ بديع في أسرة فلاحية بسيطة، يعمل أفرادها كلهم بجد واجتهاد لتأمين المأكل والملبس… ومن حسن الحظ أو سوئه، لم يتوفق الأولاد الأربعة في المدرسة، ولا البنات الخمس، لكنهم كانوا نشيطين في العمل… فالأب وثلاثة من أولاده يتعهدون الأرض، يزرعونها ويحصدونها، ويقطفون ثمار أشجارها، وقد يعملون عند المزارعين الآخرين وقت عدم انشغالهم بأرضهم… والبنات يتعهدن البيت، ويجمعن الحطب، وقصل الطابون، ويساعدن في فلاحة الأرض… أما بديع… يا ويلي عليك يا بديع، فكان يرعى عنزات العائلة الخمس، إضافة لأغنام القرية، كان معه شلية غنم كبيرة، يسرح بها صيفاً شتاءً من مطلعها إلى مغيبها، زوّادته في كيس بيده، ومطرة ماء على يسار بنطلونه، وشبابته التي لا تفارقه مربوطة على يمين البنطال…
في المراعي البعيدة، يأخذ بديع الطرب، فينقر على شبابته، تطرب أغنامه، وتهجم على حشائشها، وعندما تقف الشبابة عن النقر، يصدح الراعي بمواويله الشجية، وطلعاته التي تطرب الطير والأغنام والحجر… ويتخيل الراعي الأغنام بشراً يتلقون منه… ينصتون ويتأملون ما يقول، ويطربون… سمعه أكثر من شخص، من الرعاة، أو المزارعون، جاؤوا إليه وجاملوه، ومدحوا شبابته وصوته وأغانيه الرائعة… وبالغ أبو محمود في مديح بديع، وقال له، وهو يربّت على كتفيه: أشهد أنك زجّال، زجّال وبجدارة، يجب أن تنطلق وتغني في الحفلات والأعراس يا بديع، حرام عليك مضيّع نفسك ووقتك مع الأغنام، وأنت فنان أصيل… وتعززت الهمم ونشطت الألحان عند بديع، وتوسع فضاء خياله الغنائي…
وتدور الأيام، وبديع يتعلم الفن ذاتيّاً، ويترفع درجات يومياً، إلى أن كان ذاك اليوم، أتاه أبو محمود فارعاً دارعاً يلهث، وبديع يقارع نوتاته على ظهر جبل، بين الدحنون الأحمر، والفراشات الملونة والأشواك… صاح أبو محمود: تعال يا بديع، مش قادر أصلك… جاء الفنان سريعاً، سلّم وأصغى… قال أبو محمود: أقنعت – وبصعوبة – دار الحج علي يستأجرونك لتغني لهم في فرح ابنهم باسم، يا بديع: اسمع، ودير بالك، هذا عرس باسم، الفرحة الأولى لدار الحج، وهو حفلتك الأولى، وفرصتك… شد حالك… بدي إياك قبضاي، والعرس بعد أسبوع من اليوم… درب نفسك جيداً… واستعد…
لا همّ لبديع إلا الطلعات والمواويل، والشروقي والمعنّى، والمكسوم… من الصباح الباكر، حتى الغياب… إنها فرصته… تخيل بديع وقد نزل عليه السعد، عيشة ندية طرية ثرية… عيشة مريحة بعيدة عن الأغنام وتيوسها… تخيل نفسه في بيته الجميل، وكيف نزل عن الدرج إلى سيارته، وجلست زوجته الأنيقة إلى جانبه في رحلة استجمام بسيطة، أو … أو…
وجاءت الليلة المزعومة، ليلة الامتحان، ووقف الفنان في وسط الميدان، وكأنه بُهِت والتخم… وتخربط، أمامه أناس بشر، وليسوا أغناماً… هو في ميدان البلدة وليس في المرعى، نظر حوله فوجد دار المختار مضوية، فارتجل قائلاً:
مظويّة دار المختار… مظويّة دار المختار… والناس يرددون يا حلالي يا مالي… يا حلالي يا مالي… مظويّة دار المختار… مظويّة دار المختار… يا حلالي… يا مالي… يا حلالي…
ويكرر، وهات الله ينجده بجملة أخرى، ما فيش، عرق الفنان، واحمرت وجنتاه، وحاول العودة إلى العتابا: قال: أوف… أوف… أوف… وبطّل صوته يطلع إلا فحيحاً: حححححححح… حاول مرة أخرى، فزاد فحيحه… قال الشباب: والله مهو بديع المجنون… إنما المجنون من يستمع إليه، ويردد، وهجموا عليه… وهرب الذي غنّى… وكانت صورة سيريالية رائعة… ناس يلاحقون فناناً… لطرده أم للاستزادة من فنه..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى