المفرزة التي لاحقت المشاهير ( 9)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال | لبنان

أمسكتُ سماعة الهاتف وعيناي متجهتان صوب شقيقي

قال الماغوط : مرحبا

قلت: أهلين (وشك ولا ضو القمر)؟

ـ هل ترين وجهي؟

أجبت بصوت خافت:

ـ نعم بقلبي (عيني الثالثة التي لا تخطئ أبدا). ونظرت إلى عين أخي التي احمرت لكنه على ما بدا حاول أن لايحرجني .غادر باتجاه عيادته.

قال الماغوط :

ممكن نلتقي غدا؟

صمتتُّ قليلاً، وحاولتُ أن أبدي عدم اهتمامي، ليس لأنني لا أرغب برؤيته، بل لأنني كنت أُنَفِذُ فكرة مجنونة أنا وشقيقي المهندس الذي كان يصغرني سناً وصديق العائلة الشاعر” جمال زين الدين ” ٠ وهي إزالة جدار إسمنتي بين غرفتين، لكي نحظى بصالة واسعة . تصلح للاحتفالات. مستغلين سفر والدي إلى قريتنا (سحمر في البقاع الغربي من لبنان). كان جمال متحمسا للفكرة لأني وعدته أن أدعو الماغوط لحفل عيد ميلادي وأعرض قصائده عليه.

بدأنا عملية الهدم التي استغرقت وقتا طويلاً وجهداً لم نكن نتوقعه.

كنا نهدم ونخشى أن ينهار السقف فوقنا٠ كان شقيقي قصيراً بالنسبة للشاعر جمال، فكلما كسر جمال قطعة أسمنت وقعت فوق رأس شقيقي الذي لم يكن موافقا في البداية على عملية الهدم، واضطر حينما أصبح الحائط مثقوباً كعين مقلوعة أن يساعدنا. ثم انسحب. كان جمال يتصرف كالمهندس ويسألني

ـ بيتكم زواياه عضايد أم صف بلوك ؟

ـ لاأعرف٠٠ مامعنى عضايد؟

ـ العضادة هي الأساس. إذا كانت الزوايا صف بلوك قد ينهار فوقنا .

رغم الرعب الذي سببه لي. كنت أضحك وأنا أضرب الحائط بالقدوم. وأنشد قصيدة الشاعر “أمل دنقل”

آه ما أقسى الجدار

عندما ينهض في وجه الشروق.

فيجيبني جمال الذي بدأ الإرهاق يرسم خطوطه على محياه ؛ ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة٠

 أضحك بعمق وأتابع:

لو لم يكن هذا الجدار

ماعرفنا قيمة الضوء الطليق٠

قلت للماغوط:

ـ هل نؤجل اللقاء لما بعد الغد؟ فأنا مشغولة اليوم ٠

 قال بعصبية: مالديكِ؟

ـ لدي موضوع يجب أن أنجزه للمجلة وبضعة أوراق عليَّ أن أنهيها.

في الحقيقة كنت أريد إتمام مراسيم الحفر والدفن.

قال: ألا يمكنك تأجيل الكتابة لما بعد الغد؟

ـ لا٠٠ لا ..أبدا (وجهت ناظري باتجاه جمال وربتُّ على خدي الأيسر).

كنَّا أنا وجمال معفرَيْن بالتراب، وقد بدت رموشنا بيضاء، وتخللت قطع من الإسمنت شعري وشعرجمال, ولم يكن نفضها سهلا٠ وبدت الغرفة وكأنها تعرضت لعاصفة رملية. لوحتُ بيدي لجمال هامسة: لو رآني الآن لتخلى عن صداقتنا

قٌرِعَ الباب والسماعة في يدي ٠ خرج شقيقي من عيادته المجاورة ودخل المنزل مسرعاً. وقال : بابا وماما عادا من لبنان٠ فقلت للماغوط وأنا ابتلع نصف الكلمات: سأتصل بك غداً ونتفاهم ٠ الآن لدينا ضيوف.

إلى اللقاء٠٠أغلقتُ السماعة دون اعتذار . وأنا أرتجف. أراد جمال أن يقفز من سطح الجيران فمنعته.

ـ تريد أن تفضحنا؟

ـ أَفْضَل من أن يرتكب أبوكِ فينا جريمة .

ـ لاتخف ٠

ـ أبوكِ لايعرف ربه الذي خلقه عندما يغضب.

دخلت ماما يتبعها والدي٠ وضع الحقيبة على الأرض ونظر إلى جمال بحنق٠ فهو لم يكن يرتاح لصداقتنا ويقول: اجتمع المجانين ٠ وقف جمال صامتاً كالتمثال ٠ ووقفتُ أنا أرتجف . فحمل والدي القدُّوم يريد ضرب جمال٠ تدخل شقيقي وحل المشكلة قائلاً: جمال لا دخل له أنا طلبتُ منه أن يهدم الحائط سنحضر مهندس مختص بالديكور لصنع خزانة هنا مثل التي عند أبو حسين. فهدأ أبي قليلاً٠ فشقيقي كان طبيب أسنان أخصائي في جراحة الفم والفكين وكان يساهم بمعظم مصاريف المنزل لذا كانت كلمته مسموعة ومطاعة. وولى جمال هاربا وهو يحمد الله الذي لايحمد على مكروه سواه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى