خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (10)
فتحي محفوظ | ناقد مصري
القصيدة الثامنة: حَوَافُّ الْحُرْقَةْ
يذهب الجندُ إلى الجبهةِ في الحربِ
وتبقى في فضا هذي الجداراتِ النساءْ
يتمشَّينَ على حاشيةِ الأسواقِ خفيفاتٍ ويتركن المشدّاتِ على طاولة البهوِيراقبن الرجال الغرباء
يحتسين القهوة المُرَّةَ في الصبحِ وفي الليلِ الطويل
يرتشفن الخمر سِرًّا
ويعاتبن الرجالَ الغائبين ويرقصن فرادى
يشترين الوجدَ من بيّاعه
والفرحَ المنقوصَ من بيّاعه
وينمنَ في منتصفِ السّكَّةِ بين البوْحِ والذكرى
وبين الجرحِ والشكوى
فإنْ جاء ملاك الحلمِ في حُلّته الخضراء
يتمشى في حشيش الشجر المبلولِ
قدمن له خبزا وماء.
البساطة صالحة لإثارة الدهشة
الجانب الشعري في القصيدة يتدفق بسلاسة فائقة بلا تعقيدات ولا يطغي علي الجانب السردي في القصيدة. إنها إحدى ملكات شاعرنا المرهف الحس.
يتمتع السماح عبدالله بملكات عديدة: البساطة المتناهية. الروح الانسانية. القدرة الفائقة علي الإيجاز والتعبير علي الرغم من ضآلة مساحة الانشاد في النص، وأزعم أن قدرته علي البناء التعبيري لا يكاد ينازعه فيها شاعر آخر . في تلك القصيدة وبفعل بسيط وصريح يقول إن الجند ذهبوا الي الحرب، فيعلن بذلك عن مبررات غياب الرجال الذين ذهبوا إلي الحرب، عن إطار اللوحة :
” وتبقى في فضا هذي الجداراتِ النساءْ
يتمشَّينَ على حاشيةِ الأسواقِخفيفاتٍ
ويتركن المشدّاتِ على طاولة البهوِ ”
والذين تبقوا بعد غياب الرجال هم النساء، وهي البقية الباقية التي ظلت قائمة وحاضرة ومطبوعة علي
جدارية التوثيق التاريخي والاجتماعي.
توثق الجدارية/ اللوحة أبعاد الصورة من خلال عنصري الغياب والحضور داخل المشهد. ذهاب الرجال إلي الحرب وبقاء النساء داخل المشهد يؤكد علي محتويات اللوحة نفسها. يتحرر النساء من ارتداء المشدات بعد غياب الرجال، لا يعني التحرر من القيود الأخلاقية لأسباب تتعلق بذهاب رجالهن إلي الحرب، ولا تذهب القصيدة إلي أبعد من ذلك.
لم تكن قيود التحرر من ارتداء المشدات في سبيل البحث عما هو بديل للفقد. فنزع الأربطة لم يكن في سبيل بروز دوافع النزق المستتر خلف طبائع وغرائز طال زمان كبتها لخلو اللوحة من حضور الرجال، فنص القصيد لم يوجهنا إلي ذلك، وإنما كان النص يقودنا بسلاسة ورقة إلي جهة أخري. إلي حضور آخر بديل:
” يراقبن الرجال الغرباء
يحتسين القهوة المُرَّةَ في الصبحِوفي الليلِ الطويل
يرتشفن الخمر سِرًّ ”
وهم الرجال الذين لم تتح لهم الفرصة للذهاب الي
الحرب، فجلس النسوة يشربن القهوة المرة في الصباح ويحتسين الخمر آناء الليل . فسجل الرجال الغرباء بذلك حضورهم داخل الإطار، فيما ظل الآخرون بعيدا في أتون الحرب، مسجلين غيابهم عن إطار المشهد، وبقيت النساء في حالة من التمزق بين حدي الحضور والغياب. دون ضغينة، ودون بروز دوافع الشبق والنزق والتي ربما كانت متاحة تحت إغراءات وجود بدائل من الرجال الحاضرين داخل الإطار.
يرقص النساء فرادي دون أزواج. دون رفقة، فالاختيار بين الغياب والحضور ترف لا قبل لهن به. يذكر النص أنهن يسعين إلي ما فقد منهن .. الوجد والفرح المنقوص، ففي ظل وجود حرب ليس ثمة كمال في الفرحة. أيضا لا مكان للوجد. إنها تعاسة الوحدة وأوزارها.
تنام النساء وفي قوبهن تعاسة تلك الوحدة، ولا يأملن سوي في فيض من المتعة، يأتي عن طريق حلم عابر بائس:
” فإنْ جاء ملاك الحلمِ في حُلّته الخضراء
يتمشى في حشيش الشجر المبلولِ
قدمن له خبزاوماء”
إنها تكثيف معبر عن أقسي مشاعر الحرقة، ويكون تعبير النص عن حافة الحرقة تعبيرا جماليا لصيقا.
الصورة بكاملها تبتعد عن الزمن وعن التاريخ، وبذا فهي تبتعد عن الهوية، والسلوك الاجتماعي غير محدد بطابعه النمطي، فالرذيلة مفقودة في هذا النص، والفضيلة أمنية لا تتجاوز حدود الحلم. الحرب غير حاضرة علي مشهد اللوحة، ولكنها مطبوعة علي القلوب الخافقة بالوجد والفرح، وربما تكون تلك البارقة التعسة هي الرؤيا المستترة عن أوزار الحرب، تلك التي نسجها شاعرنا الكبير السماح عبدالله بدقة وتمعن واقتدار، ويبلغ تلك الذروة في الإثارة، فالحرب التي لا تتواجد داخل الإطار، تظل هي الحرب الدائرة، فيما يرتفع أنين النساء في لوحة تقوم بتصوير مشاهد الحرب من زقاق داخلي علي خلفية صورة مفعمة بالأسي، وهي الصورة التي تظل في ذاكرتنا المتعبة، تمثل ويلات حرب تدور في الخفاء بعيدا عن الإطار.