أدب المناجاة.. في رواية ” النّهر لن يفصلني عنك”
نزهة أبو غوش | فلسطين
أدب المناجاة، هو أقرب ما يكون إِلى الممارسة الشّعريّة. في روايته “النّهر لن يفصلني عنك” يناجي الكاتب الأردنيّ، الرّواشدة ، ويتجاذب أطراف الحديث مع العديد من الأطراف. يخاطب في مناجاته ربّه، ثمّ يناجي ويخاطب ذاته، أو النّاس عامّة، وأحيانا الانسان، وخطاب المتصوّفين.
يكون الرّاوي أحيانا متسائلا ، وغاضبا أخرى، وشاكيا ومتردّدا، لائما مقرّعا؛ وخائفا. ” ارحل عنّي أيّها المغتصب ذاكرتي، ارحلوا عنّي جميعا علّني أعرف صحبي وأحبّتي، وتعود بي الذّاكرة إِلى آلاف السّنين الموءودة، إِلى أيّام قفا نبك…” ص
كلّ هذه المناجاة والخطابات، يصبّها الكاتب في قالب لغويّ متعدّد، و في أساليب فنيّة مختلفة:
نجد أنّه استخدم في لغته أسلوب الهذيان ، الّذي يصل بنا إِلى أبعد حدود. يبتدئ بأسلوب الحلم والخيال حتّى يصل إِلى الهذيان. ص86
أمّا الأسلوب الآخر فهو أُسلوب مخاطبة الصّوفيين بلغة الدّعاء، والابتهال.
” الهي ثوب جسمي دنّسته
ذنوب أبدا إِثمها عظيم
الهي، جد بعفوك” ص 80.
فإِني على الأبواب منكسر ذليل”
يناجي الرّاوي سامعيه أيضا من على المسرح، يخاطبهم، ويناجيهم.
“الجيش على مشارف أور سالم. الحارث في مقدّمة الجيوش. صمت رهيب ومهيب. ينظر اليهم فيرى شعاع النّصر في العيون، فيطمئن قلبه. “ص 59
وأنا أسير نحوك أو سالم، وأترك خلفي الماء والحجر، آه لحظة التفتّ اليك، هل لاحظت كيف شعّ من عينيك نور وأنت تدمعين؟ لا تخافي يا حبيبتي، فها هم رجالنا على ظهور خيلهم” ص 54.
عمد الكاتب رمضان إِلى أُسلوب الرّمزيّة في التّعبير عن مشاعر شخصيّاته، مستخدما الشّخصيّات التّاريخيّة أو الدّينية، متجاوزا حدود الزّمان والمكان. فشخصيّة الحارث، الملك الأردني القديم، فهو الملك البطل المقدام؛ يرمز إِلى القوّة والشّهامة، كذلك استخدم شخصيّة يوسف الصّديق، رمزا لوقوع الظّلم على الشّخصيّة الرّوائيّة؛ مقتبسا بعض الأبيات الشّعريّة لمحمود درويش.
” أنا يوسف يا أبي
أخوتي لا يريدونني بينهم
وهم طردوني من الحقل
وهم سمّموا عنبي
فماذا صنعت
وهم أوقعوني في الجبّ” 79.ص
استخدم الكاتب لغة الحبّ الرومانسي الجميل معبّرا عن مشاعر شخصيّاته: فهناك مشاعر الأمومة والحنان والدّفء، يتمثّل هنا بحبّ الأرض والوطن والحنين إِلى القدس، الّتي تسكن خلف النّهر. فالمرأة والحبيبة في مناجاته، هي رمز للوطن.
” إِنّه الحبّ، إِنّه المحبّة. إِنّه القدر الّذي جبلنا عليه. كيف بي أن أكون شرقيّا وقلبي معلّق بهواء أور سالم؟ ما فائدة الأثواب المزركشة دون نساء؟ وما فائدة الانسان دون ذاكرة ونبوءة ومكان وتراب وتراث؟” ص27
نلحظ بأنّ هناك بعض التّكرار في الخطاب عند الكاتب رمضان، حيث أنّ تلك التّكرارات ، هي من سمات أدب المناجاة وجوهرها؛ فهي ليست من أجل الزّركشة والزّينة البلاغيّة؛ بل هي تجسيد لحالة انفعاليّة خاصّة في نفس الرّاوي، يعبّر عنها ويكرّرها لما تؤول إِليه نفسه من ألم، أو غضب، أو حبّ، أو حنين إِلى الأرض المقدّسة، مدينة القدس الحبيبة.
نجد بأنّ لغة الرّاوي، تحمل الكثير من الصّراعات على الحياة بصورة عامّة، وعلى الأرض والبقاء، والاستمتاع بالزّمان والمكان حيثما نكون؛ ففي حالات صراعاته، نلحظ بأنّه يخاطب ذاته، أو غيرها بشكل غير متسلسل، أو غير منطقيّ، ليؤكّد حالة لهذيان؛ وأحيانا نجده يلاحق العبارات تلاحقا خاطفا، أو مشوّشا؛ كي يعطي سمة أخرى من سمات أدب المناجاة.
استطاع الكاتب المبدع، رمضان الرّواشدة، بخطاباته المتعدّدة، وأسلوب مناجاته؛ أن يوصل للقارئ مدى حبّه وعشقه للقدس، الّتي مهما حدث بها من أهوال رآها بأمّ عينيه في طرفيّ المدينة؛ لم ولن تفصله عنها أبدا .
إِنّ النّهر الجاري ما بين المملكة الأردنيّة وفلسطين، أبدا لن يفصل ما بين الشّعب الواحد، الّذي ينبض بقلب واحد، ويتنفّس بروح واحدة.