على ناصية شارع المتنبي.. ترانزيت: العراق مصر عُمان
ناصر أبوعون
قولا واحدًا: من لم يتسكع على أرصفة شارع المتنبي لم تطأ قدمه أرض العراق وإن عاش ومات فيه.. هنا وقبل حادثة التفجير الانتحاري عام 2007 كان مقهى “ريش” القاهريّ يجلس على طاولة بغدادية في “مقهى الشابندر”، ومحمد عفيفي مطر يموسق قصائده على إيقاع القوارب الراقصة على ضفاف دجلة، ويسكب أحزانه شعرا معتقا على صفحات “الأقلام” البغداديّة.
وعلى طول المسافة من مبتدأ شارع المتنبيّ إلى إطلالته البهية على نهر دجلة كان المسرحي المخضرم “كرم مطاوع” متأبطا ذراع رفيقة دربه “سهير المرشديّ” يزرع خطواته تمردًا وثورةً فنيّة تبرعمت وأثمرت جرأةً فقأت عين الرقيب، وحطّ طائر الزرزو على رأس السلطة الأبويّة التي تسمرت مشدوهة أمام المنتوج المسرحيّ لثلة من الشباب العراقيّ يتقدمهم عوني كرومي، وعزيز خيون، وعواطف نعيم، وغانم حميد، وصلاح القصب، وقائمة طويلة تتابع فيها أسماء تلك الكتيبة المسرحية المدججة برؤية تقدميّة متمردة.
فلمّا ورد الصحفي الساخر محمود السعدني – مطاردا من جميع العواصم العربية – على “شارع المتنبي” التقاه صدام حسين – قُبيل أن يقفز على كرسي السُّلطة – وأومأ له بـ”مغادرة العراق”. ساعتها أيقن السعدني أن الشارع خلع اسم “المتنبي” وارتدى اسمه القديم “الأكمك خانة” أي المخبز العسكري.. وبعدها كان العراق على شفا حفرة من الديكتاتورية وما لبث حتى تردّى فيها على حين سكرة من صدام ورفاقه، “وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ” وأخذته العزة بالإثم وأعمل آلة طغيانه في معارضيه، واستدعى صورة فرعون و”قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ”.
فإذا ما انفجرت حرب الخليج الأولى، ووقف العالم على رأسه في الحرب الثانية تناثر “شارع المتنبي/ العراق” شظايا فكرية وإبداعيّة تطايرت في كل أقطار الدنيا، ليدخل العراقيّ طقس ولادة/ هجرة جديدة/؛ محقونا في دمه بـ”عشبة الخلود”، لاكتشاف سرّ الحياة الأبدية و”طائر فينيق” يتخلّق في السماء الأولى ليعود إلى الأرض صادحا الشعر.
وأينما يممتَ وجهك في كل أقطار الدنيا ستجد عراقيا كان في مبتدئه شظيّة طوحها “شارع المتنبيّ” أعادت تخليق ذاتها من جديد “بشرًا سويا”، يحمل في يمينه الحكمة، ويقبض بيسراه على كمشة من “شعر” موشومة بالـ”حزن”؛ فهما توأمًا ورفيقان لكل عراقيّ؛ ويتبرعمان في سقيفة البيوت المظللة باليُتم؛ ويستبقان باب الفرح، ويَقُدَّان قميص الحبِّ من دُبُر القصيدة؛ بل هما نبيّان؛ وحيثما يكون الشعر سيف الحقيقة، يستلّ اليُتم المنجل لِيجزُّ بِتلات الفرح قُبيل تورّدِّها على خدود الصبايا، وتفتُّح ربيعِ إزهارها في حدائق بابل المعلقة، ودروب وحارات العراق المترعة بالوجع.
وهنا في عُمان عرفتُ “عبد الرزاق الربيعي” رجلا يأكل الشعر من روحه ويتغذى على حزنه، وشاهدتُ الدكتور سعيد الزبيدي يتوكأ على عصا النحو العربيّ، ويهشّ بها على خراف قصائده، ورافقت د. نائل حنون عميد الآداب وعلم الآثار العراقيّ المتخصص في اللغات القديمة وهو يفك شفيرة الرموز الغامضة في أضابير التاريخ ليكشف عن وجه الحقيقة، واصطحبت المهندس الشاعر وسام عبد الحق العاني، وهو يهندس معمار القصيدة، ويرصص النجوم النجوم المرصّعة بالبلاغة على كتف القصيدة، ويستنبت الصور النديّة في قيظ الصحراء الموغلة في الهجر ويرسل قصائده نسائم شوق مضمخة بالعطر، وجالستُ التشكيليّ الأكاديميّ صبيح كلش الذي يغمس ريشته في دمه العراقيّ ليرسم الحسين بوجه مسيح قربانا على مذبح الخلاص.
وهنا ومن هذه الزاوية الأسبوعية سنلتقي مجددًا ونقصّ حكاية جديدة، ونفتح الأبواب الموصدة لنطل منها على المستقبل.