عن الخليل بالذات
خالد جمعة | فلسطين
ستسير المواكبُ دائماً من هناك، ملفوفةً بالحنّاء والعنبِ والسفرجل والكرز، ستتقدمُ عائلةُ بأسماء شهدائها، وتضعُ أخبارها على صخرةٍ في قاع الجبل، ففي الخليل، قمة الجبل وواديه تتساويان، الشمس تشرق هناك أولاً، ثم تستأذن جبال الخليل أن تشرق على بقية الأرض، وحين تعيش البشرية يوماً غائماً تكون الجبال هناك لم تعطِ إذنا للشمس…
ستسير المواكب دائماً من هناك، ستعيد بناء الرواية دون لغة، ستجدُ أينما حلّت خطوتك مسماراً قديماً مغروساً في حائط أقدم، مبني على صخرة أكثر قدماً، لا هذا يصدأ، ولا ذلك يتصدع، ولا تلك تتزحزح، لأن امرأةً من روائح الزعتر البري تقوم كل يومٍ قبل أذان الفجر وتلمّع الساحات بالزيت المعصور حديثاً، وتنقش الحوائط القديمة بأزهار البرتقال المهداة إليها من غزة، وتبخّر الأمكنة بتوابل من باب العمود في القدس، فيصحو السكان على مدينةٍ طازجةٍ كل يوم، فمن رأى منكم قبل اليوم حليب أمٍّ بائت؟
ستسير المواكبُ دائماً من هناك، غضةً، بأولادٍ طيبين، لكنهم شرسون وقت الحاجةِ، يتمرنون على العناد منذ اللحظة الأولى لميلادهم، ساد اعتقاد قديم أنهم يقلّدون آلهة الأساطير، لكن اكتشافاً حديثاً جداً، أثبت أن آلهة الأساطير كانوا يقلدونهم، يسحبون الكلام طويلاً، فتبدو الجملة أطول مما هي في الحقيقة، لكن المعنى هو الذي يجعلها مثلما هي، حقيقية، وواضحة، مختصرة، وحادة، وتترك أثرها في طين الجبل وفي سامعها بطريقة واحدة.
ستسير المواكبُ دائماً من هناك، لونها سيشبه الليل حين يضيؤه الأولاد بفوانيسهم التي ورثوها عن أصدقاء استشهدوا قبل أن يحملوا شهادات مدارسهم إلى آبائهم، كان الدم يسيل ببطءٍ ليغطي كل شيء بانتقائية عالية، يغطي الأوراق القديمة التي تثبت ملكية البيوت، يغطي مفاتيح المحلات الضخمة والتي تعجز عن حملها ذاكرة الآخرين، يغطي مليون قصةٍ ويكشف مليون حكاية، في الخليل وحدها فعل إبراهيم ما فعله لكي يكون أقرب إلى الرب، وهناك رضي الله عنه كما لم يرضَ عن بشريٍّ من قبل.
ستسير المواكبُ دائماً من هناك، ستلقي التحية على صنّاع الزجاج والفخار، ستسلم على دابغي الجلود، على الخياطين وعمال المحاجر، على زارعي العنب وقاطفيه، ستسير المواكب كما سارت منذ عصور البرونز حين أسسها الكنعانيون، ستسير دائما من حارة الشيخ علي البكّا، إلى حارة باب الزاوية، إلى حارة القزازين، إلى حارة العقابة، ستقطع المواكب حارة الحرم، وحارة المشارقة وحارة قيطون، ستصل وادي الهرية وحبايل الرياح، ووادي التفاح وعين سارة، وستمكث في الشعابة وقيزون وعين بني سليم، وستجدد شبابها في نمرة وفي البصة وفي وادي أبو كتيلة، ستمضي المواكب حتى يكفّ الوقت عن وقته وينام.
ستسير المواكبُ دائماً من هناك، وسيخرج دائماً في مقدمتها، جريح أو شهيد أو متوضئ للصلاة، فالعمل عند الله يحسب بالنيّة، وللمرة الأولى أرى رجالاً نيتهم مدينة.