كونية القول الفلسفي عند العرب.. أو تشريح العقل العربي الإسلامي
د. زهير الخويلدي | كاتب فلسفي – تونس
استهلال
” ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجا التصحيح الذي يحقق المعرفة”
ظل الفكر الاسلامي منذ انحباس حركة الابداع الدلالي الأول حائر الدرب وفارغ الجوهر يعاني من الجدب والقحط يهدر الطاقة ويأتي الأعمال الخاسرة ويمارس هواية القفز في الفراغ ويدور في حلقات مفرغة وواقع ضحية خداع الألفاظ والأوهام في الأحكام ويزعم الاجتهاد والباب موصد ويتتبع الأشياء بأغراضها وأهدافها ويترك الماهيات بأعيانها. ان الأمراض التي يعاني منها الفكر الاسلامي هي الاختباء وراء الأقنعة وفقدان التعطش الى الجديد ومراكمة النقد على النقد الى ما لا نهاية والبقاء على الحياد السلبي وعدم الاكتراث ولجوء الى لا مبالاة كئيبة وانزواء كسول أمام مسيرة الأحداث وميل نحو تعظيم الأشخاص وشخصنة الأفكار ومغالاة في التساهل أمام الرداءة والتملق واسقاط مشاعر الداخل على ادراكات الخارج وتأثيرات الخارج على النظرة من الداخل. نكتة الاشكال في اعتبار الاسلام قادر من جهة التقليد على الرد على كل تحديات العولمة :” الاسلام في جوهره حل من الحلول الكبرى وفكروية ايديولوجية متكاملة ، له مميزاته المستقلة التي هي وحدها سر قيمته ومجلى شخصيته. نعم هو منهج كلي لا يؤخذ تفاريق، ولا يدرس أجزاء معزولة…انه يضع في خط الحل الواحد الممتد، الحياة وما يختلف فيها، والتحرك الانساني وما يستشرف اليه.”
هل أماط العلايلي اللثام عن الوجه الحقيقي للإسلام؟ ألا تراه وقع في ادعاء ايديولوجي وهو تضمن الاسلام لمفاهيم كلية وحلول شاملة لمشاكل الامم في كل زمان ومكان؟ وكيف يمكن استصلاح الفكر الاسلامي مثلما نفلح الأرض ونسكن البيت ونعمر الكون؟
ان استصلاح الفكر الاسلامي هي مهمة ينهض بها الشباب بالتعاون مع الكهول وبالاستفادة من خبرة الشيوخ. كما أن تحديات العصر هي التي تدفه الطبقة الناشئة الى أن تهب ضد التقليد والوريث الأشيب وتقاسي الأمراض الحاضر المألوف وتحرص على الدواء وتحمل البشارة لهذا العلاج وتنطلق نحو زحزحة الأبواب الموصدة والعبور نحو ينابيع الحكمة. من هذا المنطلق ليس الشباب عمرا من الحياة بل انه استعارة حية للقوة التشكيلية للحياة. ” الفكر الاسلامي المعاصر مازال بحاجة لأن يعيد ارتباطه بخطاب حركة الاصلاح الاسلامي وتجديد المعرفة بهذا الخطاب ومراجعته وتقويمه والاستلهام منه واستحضاره أيضا. فخطاب عصر الاصلاح الاسلامي، كان على درجة عالية من التطور والتقدم، وفيه تجليات الحداثة والمعاصرة، أو بعبارة أخرى فيه تجليات الاجتهاد والتجديد كما كان شديد الارتباط بمفاهيم التقدم والمدنية.” الاستصلاح هو الاعتناء العقلي بالمبنى والمعنى الذين يتكون منهما النص وذلك بغية دفع مفسده وجلب مصلحة في الواقع التاريخي والاجتماعي عن طريق التطلع المعرفي والعلمي والتمسك الأخلاقي والفضائل وبواسطة التعلق الجمالي والنزوع العشقي والايجاد الابداعي. علاوة على أن الاستصلاح مشتق من الاصلاح على الصعيد النظري والصلاح على الصعيد العملي ومن المصالحة التي يقوم بها المرء مع نفسه ومع طبيعته وهويته والصلح الذي يجريه الحكيم العاقل بين الأفراد المتنازعين والمجموعات المتخاصمة. من هذا المنطلق يحرص المجتهد على أن يحسن الصنع ويكون من المصلحين في الأرض والصالحين في الدنيا ويجتنب الأعمال الخاسرة وألا يظل سعيه ويطلب العاقبة الحسنة. كما يميز بين اسلام الرسالة واسلام التاريخ وبين الدين القيم والتدين الفردي وبين جوهر الاسلام والفكر الاسلامي ويجعل من المقاصد والمصالح والاستحسان والعقل هي مفاتح التأويل.
“فلما كانت شريعة الاسلام منظمة للمصالح الدنيوية، كانت الاعتبارات التي تؤسس تقسيمها اعتبارات مجتمعية دنيوية محضة. فآثار المصلحة في قوام أمر الأمة وتحقق الاحتياج اليها وتعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها، كلها اعتبارات تمثل الأصول المجتمعية التي يقوم عليها نظام المصالح في المجتمع الاسلامي.” يميز المستصلح بين المصلحة والمفسدة وبين المصلحة الضرورية والمصلحة الحاجية والمصلحة التحسينية ويحرص على التأصيل التشريعي والتعليل السياسي لهذا المبدأ.” نحن في حاجة الى اصلاح جوهري وعميق يساهم في صياغة وتجديد الخطاب الاسلامي المعاصر وقبل اصلاح الأمة لابد من اصلاح الفكر الذي يخاطب هذه الأمة.” لقد تمحور المسعى التجديدي في تأكيد وحدة المصدر بالنسبة للبشرية وتقديس قيمة الأخوة والعمل البشري والحرية الاجتماعية والاستقلال الشخصي ومبدأ المسؤولية الجزائية والتمتع بالحق العام وتفعيل التيسير والرفق والترخيص وتقوية درجات الاجتهاد وعمقه ليشمل الأصول والأحكام والاستئناس. غير أن القرار الثوري الذي يتخذه العلايلي هو نحته لمفهوم جديد للوحي يجعل الاجتهاد العقلي البشري يكمل العلم الالهي ويعترف بالأثر العميق الذي يحدثه الزمن في فهم النصوص والتغيير الجذري الذي يحصل للعقول وامكانية حل المستعصيات بالتطور التاريخي والنمو المعرفي بقوله:” أجل أصل هذه الشريعة الوحي، ولكنه الوحي جعل الانسان نفسه ، في صميمه، ليتحول الانسان نفسه مصدر وحي الهامي في التفصيل والتفريع، بحسب مقتضيات التي لا تنقطع ولا تتوقف حوافزها.” لكن ألا يوجد فرق جذري بين الوحي الالهي والالهام البشري؟ وهل يعني هذا أن العلايلي قد تخلى عن الجانب الالهي من الوحي؟
” وهذا المفهوم، الذي يجعل الانسان مصدر وحي الهامي في التفاصيل، يطعن النظرية القائلة بأن الاسلام، كغيره من الشرائع، ربوبي الانتماء. بل على العكس، هو الذي فصمها بجعله الانسان مصدر وحي تشريعي أيضا، والا فما معنى الحديث: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الخ؟” . فهل يقر بتواصل نزول الوحي بعد ختم النبوة من خلال الالهام الذي يتميز به الامام المعصوم؟ وهل الدين الهي ان انساني؟
“ويعتبر النص الذي لا يمس، عند الأصوليين الجدد، قانونا بحتا يتكيف مع جميع المجتمعات لخلوه من أي اشارات الى مجتمع ملموس.” ان القول بتاريخية وسياقية فهم الوحي يؤدي الى فك التلازم بين الدين والقداسة وتنسيب مصدره الالهي وصفته اللاتاريخية والاطلاقية وفقدانه لصفته المرجعية التشريعية.”وعليه فالقرآن ليس نصوصا مشفرة غير قابلة لفك رموزها وليس كتابا فوقيا غريبا لغة ومدلولا كي نضطرب في حركة وعينا لفهم طبيعته وغاياته….من هنا نفهم أيضا توكيد القرآن على عربيته لسانا ولغة دلالية.”
لقد يبرهن على ذلك بما قرره القدماء من أن نص الواقف كنص الشارع. نفى وجود عبادة صحيحة بإجماع وانما كل عبادة هي محاولة انسانية تخضع لمنطق الزيادة والنقصان. “فالشريعة العملية اذا، هي من الليان بحيث تغدو طوع البنان، ازاء الظرف الموجب، مهما بدا متعسرا أو متعذرا.” الدرس المستفاد مما سبق هو أن استصلاح الفكر الاسلامي يمر عبر الانفتاح على المغاير العلمي واحداث تحولات سياسية ومجتمعية جذرية والقيام بثورة معرفية موسوعية وجعل فهم الوحي يتغير مع روح العصر ومع تغير الظروف والاجتهادات وتطور الدلالات والفحوى، “وبذلك تظل للشريعة مرونتها وللتشريع حركيته و”ديناميته” .
غاية المراد أن “النظام الاسلامي الحضاري البديل بفلسفته الكونية يحول دون استلاب الانسان سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا حين يحاط في التطبيق بكل هذه الأبعاد، فيرتقي فوق التنازع الطبقي أو العرقي أو السياسي، فلا يقنن الصراع بمنطق الديمقراطية والحزبية مع الابقاء على جذور الصراع الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه يلغي الصراع بمبدأ السلم ويحقق التكافؤ بين الناس.”
في البدء ، توجد محاولات جادة من أجل النقد والتفكيك والتجديد في الفكر الاسلامي المعاصر ولكنها مجرد جراحات خارجية ولم تقم بتحريك البنية وزعزعة اليقينيات وكسر المرايا التقليدية والطبقات المتكلسة، ومازال ثمة امكانيات أرحب للاستصلاح والاستنبات.
في هذا السياق حري بنا أن نبحث في القضايا التي تطرح علاقة الدين بالعقل وتدفع التنوير الي تفكيك الايديولوجيا وتجعل من ارادة الذات في الحرية عنوان لمصارعة الاستبداد ومقارعة الظلم. كما أن التنقيب في السير الذاتية لبعض المعاصرين مثل الشيخ الثعالبي والمصلح الفاضل بن عاشور والفيلسوفين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري يُخَوّل لنا درء التعصب ونقد التراث والتفلسف في القرآن والعناية بالضاد وتأصيل التنوير وتحقيق التقدم الاجتهادي بدل التقليد المذهبي. بيد أن أهم الخطوات التي يجدر بالفكر الذي يخصنا أن يتجرأ عليها تتمثل في قراءة التجربة الدينية من زاوية فلسفية هرمينوطيقية والربط بين اعتبار العقلانية العلمية شرط قيام سياسة ديمقراطية تستوعب حكم الشورى والولاية والامامة والخلافة وتتجاوزه نحو المدنية الانسية. ان استصلاح الفكر العربي الاسلامي يقتضي الاستفادة من التحولات التي طرأت على المشهد السياسي باحداث تحولات في الخطاب الديني يهم حقوق الانسان عامة ومنزلة المرأة بالخصوص ويتطلب اعادة بناء العلوم الأصيلة واستئناف حركة الابداع الدلالي ثانية على ضوء الثورة المعرفية الكبيرة التي شهدتها العلوم الانسانية والنقد الأدبي والفلسفة واعادة تأصيل العلاقة الممكنة بين اللغة والعقل والواقع. فما السبيل الى الاتفاق على التأصيل والتفريع وعلى الاقتناع الحق والاقتصاد في الاعتقاد؟
الفهرست:
مقدمة: ص.03.
الفصل الأول: عقلنة الدين وتدين العقل. ص.07.
الفصل الثاني: التنوير العقلي بدل التعصب الايديولوجي. ص.15.
الفصل الثالث: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد في مرآة التراث والذات والآخر.ص.22.
الفصل الرابع: رحلة الثعالبي الإصلاحيّة: من أسوار التعصّب إلى دروب التحرّر.ص.41.
الفصل الخامس: العناية بالضاد والتفلسف في القرآن عند محمد الفاضل بن عاشور. ص.66.
الفصل السادس:حسن حنفي، فيلسوف التراث والتجديد. ص.74.
الفصل السابع: دوائر النقد وحدوده في مشروع محمد عابد الجابري. ص.97.
الفصل الثامن: نقد العقل التنويريّ أو نحن في عصر يسير نحو التنوير. ص.114.
الفصل التاسع: التنوير الأصيل: التقدّم الاجتهاديّ بدل التقليد المذهبيّ. ص.130.
الفصل العاشر: الدين من وجهة نظر الفلسفة الهرمينوطيقية. ص.142.
الفصل الحادي عشر: من الحكم بالشورى الى الدولة الديمقراطيّة. ص.180.
الفصل الثاني عشر: القراءة العلمية للدين شرط قيام الديمقراطية. ص.191.
الفصل الثالث عشر: منزلة الانسان في ظل تحولات الخطاب الديني. ص.205.
الفصل الرابع عشر: واقع المرأة العربية بين الدين والعولمة. ص.216.
الفصل الخامس عشر: الاسلام المستنير والسياسة الشرعية. ص.225.
خاتمة . ص.236.
المراجع والمصادر.ص.248.
الفهرست. ص.255.