جُمانة الطراونة العراقية الأولى.. في عراق الله
ناصر أبو عون
على صهوة جواد عربيّ أصيل، قطعت الفارسة الشاعرة جمانة الطراونة، الأردنيّة جذورا وأرومة، والعراقيّة بالحُب، والربيعيّة بالقلب، ألف كيلو متر من الشوق، وأربعين شتاءً من اللهفة؛ لتصطاد غزالات الموسيقى، وأيائل البلاغة المتقافزة في غابة الشعر على ناصية شارع المتنبيّ.
في قصيدتها “العراقيّة الأولى” احتطبت الشاعرة أشجار وحدتها بفأس الهوى، وأسقطت أسوار عزلتها بإزميل الصَّبوة، وشرعت أبواب قلبها بمفاتيح الشغف، وأوكأت قراب الحزن بأزمّة الكَلف، وسكبت صبابتها في أقداح العشق، وقدحت شرارة النجوى بأحديث الجوى، وانتوت وصل حبال الودّ بالعزف على أوتار الهيام، فشاء الله لها أن تكتب رائعتها “عراق الله” مزامير قداسة للعراق/الوطن/الحبيب تميمةَ وصل، وعطوة اعتراف بأنّ “حبُّ العراقِ اعتناقٌ لا يغيّرُهُ..أن ينتهي الودُّ طال العمرُ أو قصرا”، “أرادهُ الله في قلبي فهيّأهُ..كوناً فكان هواهُ المشتهى قدرا” ليسقط الشاعر العراقيّ(….) بعدهما مغشيًا عليه في حجرها، حتى إذ غاض في بحر الحقيقة، انكشفت له الحُجُب، وانقشعت غشاوة البصيرة عن عين قلبه، وأفاق فؤاده من غفوة طينته المستلَّذة.
فلمّا آجال النظر في مرآة وجهها الصبوح رأى نفسه بعين البصيرة، يحمل أوجاع العالم ويصعد إلى سدرة العارفين، فخفّ وشَفَّ وأيقظ الوجد النائم في صدره، وتحرر من طينة جسده المضمخ بالأوزار فانقلب ملاكا نورانيّ الهيئة اتحد بصورتها، وانصهر في ملكوت براءتها، وصارا الإثنين معا وتدا ربّانيًا يطوف جهات الأرض، يزرعان القصائد خلوات في وهادها، ويشيّدان من الكلمات المعجونة بالحزن العراقيّ محاريب وفنارات ضوء في نجادها، ويطيران على بساط الموشى بالوله ويجلسان على سرير مُزنة حبلى بماء الخلود، تصعد بهما إلى سدرة الشعر فأكلا منها حتى تعرّت القصائد، فطفقا يخصفان عليهما من ثُريات الموسيقى حتى صار العاشق والمعشوق قطبا واحدا ممسكا بصولجان الإمامة؛ ليكتشف ذاته ويفك شفيرة العالم.
في قصيدة “العراقية الأولى”، يتبدى “المثلث السيميائي” في ثلاث علاقات منطقية: حيث المقابلة تجمع بين متناقضين: الرفض المنطقي لفكرة الحب، تقابلها صورة الانسياق وراء نداء القلب؛ فأمَّا الأولى في قولها: “بقيتُ من دون حبٍّ غيرُ آبهةٍ/حتّى أتاني نداءَ الحقِّ أن أقمي”، وأمّا الثانية فكانت في قولها: “صدّقتُ قلبي وسلّمتُ القرارَ لهُ/ فقال: بالحبِّ بعدَ اللهِ فاعتصمي!” وفي العلاقة الأخيرة حيث تعتقد الشاعرة جمانة الطراونة – اعتقادا لا يخالجه شك – أنّ جبلّة الشعر جِينٌ وراثيّ وهويّة عراقية، وشرف مقصور على جنس الشعراء لا يشاركهم فيه صنف آخر من بني البشر، والشعر في معتقدها هوالمعادل الموضوعي للعراق – جنسًا وعِرقا – وترسم من خلاله صورة شعرية تجمع بين زوايتين من التناقض الإيجابيّ؛ حيث تكون الزاوية الأولى “فرض عين” وشرطا أصيلا ينبني عليه وجودُ وتحققُ الشرط الآخر في الزاوية الثانية كنتيجة منطقية وحقيقة يقينية، لاجدال فيها كما في قولها:”كتبتُ قريضاً لا يزيّنُهُ وسْمُ العراقِ”،”لما أحْسستُ بالعِظَمِ”، وهذا المعنى نراه بجلاء في قصيدتها “عراق الله” في قولها: “وقبل ما نطقتْ بالضّاد ألسُنُنا..كانوا/ كما هم عليهِ / الأمّةَ الشعرا”
وأخيرا فإنّ الإبحار في شعر “الطراونة” رحلة صوفيّة، يقودها حادي القصائد، ويغني في أعطافها حارس الغيوم، وترتسم الصور الشعرية نجوما في سماء المعنى، ونوتة موسيقية تتراقص إيقاعاتها، وتتوالى صورها لاهثة في جمل متقابلة مبنيّة على حُسن التقسيم؛ كقولها: “خانوهُ لكنّهم لمْ يبلغوا الوطرا”، “ويومَ كلُّ بلادٍ سقفُ رغبتِها..قاعٌ مقامُ العراقيينَ كان ذُرى”، “ونحنُ نبحثُ في الصحراء عن سببٍ..للعيشِ كانوا يجوبونَ السماءَ سُرى”. وفي الأخير تعالوا نردّد معها:”هذا العراقُ عراقُ الله لا أحدٌ..إلاّ وفي جوفهِ مما أعدّ قِرى”.