الخروج من الذكرى.. الدخول في البيت

د. حاتم الصكر

تأخذ الأوطان أعمارنا وأحلامنا وأزهارنا.وتعطينا الشجن.
نحس ونحن نستحضر البيت مصغرا بليغا للوطن أن في الطريق إليه كمائن ومكائد، لا تقلّ عما لاقاه عوليس تائها يستهدي كالأعمى بعصا الذكرى وبوصلة الذاكرة، متجها إلى إيثاكا التي ظلت تتتمنع وتمتنع بينما يصر على الوصول ولو شيخا إليها .لابد منها وإن طال السفر..وفي طريق العودة إلى البيت كم من الرجال ضاعوا، يتساءل غسان كنفاني الذي هزم صورة البيت الشفقية غير المتعينة حين حسب بطل روايته عائد إلى حيفا أن الوصول إلى البيت لا يستلزم أكثر من ركوب سيارة، وطرَقات على الباب، ثم اكتشف أن الأمر بحاجة لحرب!


هذه الأفكار وسواها تحف بالبيت البعيد والعودة إليه ، وتثيرها قراءة كتاب الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي( 14 ساعة في مطار بغداد) الذي يكتب صفحاته المائة والستين بعد غياب أمده ستة عشر عاما .الأرقام هنا ذات دلالة :عشر صفحات لكل عام!لكن الأسطر ستفيض بمالا يقبل القسمة على الصفحات.ولكم وددت لو أن عبدالرزاق أسمى كتابه الطريق إلى البيت مثلا كما أسمى مدخله، لكان أبلغ من عدّ ساعات العودة إلى مسقط من بغداد بعد زيارتها والتي قضاها منتظرا في مطار بغداد بسبب تغير مواعيد إقلاع الطائرات .
لكن ساعات الانتظار لم تذهب سدى.لقد جعلها الشاعر في كتابه النثري هذا مناسبة للتذكر، موازنا بإيقاعية سردية بين ما حصل في رحلة العودة إلى البيت ، وما حلَّ به في انتظار الطائرة تلك الساعات. وبينهما تتأرجح ذكريات أسبق منهما وأهم ..هي تداعيات النشاة والفقدان، وحضور الغائبين عبر صورهم ، ومطاردة الاعمار المنفلتة من تقويم الأيام ، والسحنات التي تغيرت وتبدلت ، فشابَ الفتيان، وكبرت البنات وأنجبن، وغاب الأب والأقارب، وابتعد الأخوة والأصدقاء ، والمكان نفسه مسته ريح النوى والنوائب كجبل ابن خفاجة الاندلسي..
يأتي الربيعي لبغداده بعد تلك الأعوام زائرا لحضور مربد الشعر في البصرة ربيع عام 2010 . يتسلم رسالة الدعوة للمشاركة التي يقول إنها أطلقت النار على كل السنوات التي وقفت في طابور طويل ..وتظهر البيوت من الجو ،فيفور الحنين لبيته في حي الحرية الشعبي القديم.لم يعثر عليه من خلال محرّك البحث غوغل ايرث لكنه سيجده هنا بمحرك القلب وهو يبحث عنه في التراب.. ويمتحن الأهل ذاكرته وهم يحملونه من الفندق إلى البيت ..ذاكرة شاعر تضع للمكان علامات لاتمحى ؛ لانها لا تحيل إلى بقعة جغرافية ولا تحتكم إلى موضع واقعي، بل تستمد حضورها من إسقاط الشعور والوعي والعاطفة .
في عتبة المختارات التي تصدرت الكتاب ينقل الربيعي قولا عن فلسطينية خيبتها العودة إلى الوطن :اكتشفتُ ان الوطن لا يشبه تلك الخارطة التي تزين رقاب النساء في المنافي.
وهذا ما سيحصل للشاعر، فالخيبات لا تتوقف عند الخسائر والفقد بل في ما آلت إليه مصائر الأمكنة والذكريات.وبجانب ذلك ما ينال الوطن من عنف وقتل وإرهاب سيدون الشاعر جزئيات منه ذات دلالة.هادي المعلم الصديق الذي قتله إرهابي لأنه دافع عن برئ ، وأبناء أصدقائه المغدورين والعمائر التي طالها خراب التفجيرات..
يستنفر الريعي ذاكرته وما حفظ لإزجاء وقت انتظاره ، مستفيدا من خبرة في كتابة المسرحية؛ ليعمل سيناريو لحالته.تنقطع الذكريات بقصائد او مقاطع شعرية قصيرة له ولسواه، ثم يستعيد واقعة ما ويوثقها ، منتقلا إلى أرض المطار التي افترشها مع صديقه سعيد الزبيدي ؛ ليبصر منها العراق كله. وفي هيجان ذاكرته وقوة استرجاعاتها يتذكر بيت أحمد الصافي النجفي حين عاد لبغداد كليلاً لا يبصر شيئا:
يا عودةً للدار ما أقساها اسمع بغداد ولا أراها
ستكون تلك ابلغ رسائل الكتاب لمحبي أوطانهم، فكانه ينصحهم بالابتعاد كي تظل صورة الوطن متوهجة كما تركوها! وكما يفعل مشاهدو اللوحات الزيتية يبتعدون قليلا ؛ ليروها بمنظورها السليم دون الاقتراب الشديد منها.
سيرى الربيعي نخيل أبي الخصيب ،ومياه دجلة، وجيكور وبيت السياب فيها ،وبابل واتحاد الأدباء والجامعات والمدارس والشوارع والحدائق والبيوت ، لكنه يفتقد الوجوه ..ويسترسل في سيناريو العودة مستشهدا بقصيدة له تتكرر لازمتها: عندما تعود إلى الوطن…ثم يتغير المشهد بحسب ما تشتاق إليه النفس: رفاق الصبا.المدرسة الأولى..وتأتي نصيحته : لا تبحث الا في الثكنات وخارطة المنافي. وأخيرا:

عندما تعود إلى الوطن
لا تحمل ورودا لمن ينتظرك
وسط دخان الحرائق
تحت أنقاض الغد
فالورود معرضة للرياح المفخخة..

اللقاء بالأهل لا يقل دهشة عن لقاء الأدباء والكتّاب، والرحلة بين المدن والعودة بالذاكرة إلى مناطق لم تضئها القصائد أو تسجلها الكتابة؛ لذا كان السرد التفصيلي ممتعا بقدر ما يثير من الم.
تلك كتابة بنا حاجة لها كنوع من أدب الرحلة والسيرة واليوميات في آن واحد .وهي تنشأعلى حافات الحنين وعذابات الهجرة والاغتراب، يعطيها الشاعر الربيعي من دفق عاطفته ما يحيلها إلى شهادة وجدانية عن الحنين ومصير الحلم بالعودة بلغة تشف شعرا حتى وهو يرصد الوقائع ويدون الأحداث . فكأن الأبواب التي يفتحها السرد تتناغم مع بوابات الذاكرة وتلك الأبواب التي يصادفها الشاعر وتفضي إلى البيت: بوابة الطائرة وٍالمطار والفندق وصولا إلى باب البيت الذي يدخل منه الشاعر ليخرج من الذكرى ووطأتها على القلب والضمير والوجدان.

من فصل السيرة الثقافية
كتاب أقنعة السيرة وتجلياتها – دار أزمنة – عمّان 2017-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى