التلوّث البصري… لا نظارات تقينا منه

هدى عبد الحُــرّ حميد | العراق – النجف الأشرف

    تتلوث العين عادة بذرات غبار، أو دخان عوادم السيارات، أو قشّة ترميها عاصفة فنهرع إلى الماء، أو القطرات المعقمة وربّما إلى النظارات الشمية لتقينا بعض المخاطر… ولكن حينما تتلوّث العين بمنظر رديء وتشوّه ذوقيّ إلى أين نهرب؟

     قبل فترة قليلة، وفي إحدى زيارتي لبغداد، خطر ببالي، وأنا أرى ما أرى، العديد من التساؤلات التي تتعلّق بالبصر وتلوّثه.. تلوّثه برداءة مناظر لا سبيل لتفاديها!

 شوارع مربكة اجتاحها التخريب الذوقي بمستوياته كافة، فوضى عارمة في العمارة جعلتني أتخيل أنني بمدينة غريبة غير “بغداد” التي أعرف بعض تفاصيلها، كما تحتفظ لها ذاكرتي بصور كثيرة رأيتها في المجلات والصحف، والسؤال الأول الذي تكرّر صداه في ذهني: متى بدأ هذا الخراب البصري؟ ولماذا تعاني كلُّ مدننا من هذا الوباء الغريب، الذي ما كان يجب أن يكون ونحن ندخل الألفية الثالثة؟!

     فحينما غادرت النجف قبل ساعات كنتُ أتألم على وضع شوارعها المأساوي، وظننتُ، وبعض الظنّ أثم، أن الأمر يتعلّق بمدينة من دون أخرى، وحسبتُ أن العاصمة يجب أن يكون وضعها مختلفًا، ولم يمسّها الكثير من الضرر الذي ذهب بجمالها التليد، لكن ظهر لي أنّ المشكلة عامّة وكبيرة ولها جذور وتجليات ومظاهر، ولعلّ من أهم ما يمكن أن نراه من تلوث بصري هو غياب الألوان الجميلة التي توحّد الشوارع، فالبنايات متضادة: لون زاعق ولون حار ولون بارد.. ألوان وواجهات ذات ألوان لا يضبطها إيقاع واحد ولا توحّدها مادة.. فهناك واجهات الألمنيوم والقرميد والحديد والفايبر گلاس وغيرها من المواد المتنوعة التي تشتّت البصر في فضاء غير مريح.

وهناك مشكلة التماثيل والنصب  العشوائيّة التي تنتشر من دون رقيب فنّي صارم ليعلن بحزم أنها لا تصلح للعرض، فأغلبها لا تحتاج إلى عين خبير محترف يعرف أنها غير دقيقة ولا احترافية ولا تمتّ بصلة إلى التأريخ النحتي العراقي الأصيل، فكيف ببلد أنجب أسماء لامعة في النحت والعمارة مثل جواد سليم (1821-1961) ومحمد غني حكمت (1929-2011) ومحمد مكّية (1914-2015) وخالد الرحال (1926-1987) ورفعت الچادرچي و زها حديد (1950-2016) وغيرهم.. كيف لبلد مثل العراق تنشر فيه هذه النصب والجداريات البائسة؟!!!

     التلوّث البصري أمامك أينما تذهب، فلا تكاد تدير البصر إلى جهة إلا وتجد ما يخدش العين، فهناك الملصقات الدعائية التي خلّفتها الانتخابات التي لم نحصد من خيرها شيئًا، ملصقات شوّهت جدران البنايات والجزرات الوسطية في أغلب الشوارع حيث تمّ وضعها كيفما اتفق، فضلًا عن دعايات مراكز التجميل والمحلات التجارية والمطاعم والشركات والاعلانات  المختلفة التي لا يحكمها ضابط ذوقيّ أو جمالي.

     ولكي يكتمل المشهد الملوّث امتلأت الشوارع بعدد هائل من الأسلاك الكهربائية التي توصل بين البيوت والمولدات الكهربائية،  فهي أشبه بغابات متشابكة لها أوّل وليس لها آخر.

     الحديث عن التلوّث البصري ليس من باب البطر والكلام المثالي الذي نتداوله في الصالونات الثقافية، بل هو من صميم واجب المثقف، فنحن نعيش بعالم تتنافس فيه المدن في تأنيق شوارعها وإظهارها في أبهى حلّة، لذا علينا أن نصرخ دائمًا… نريد مدنًا أنيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى