الحرية المرتبطة بالعقل والإرادة في مواجهة فجاجة الحرية السلطوية
د. عماد خالد رحمة | برلين
عمل عدد كبير من المثقفين العرب على رفض القدرية الدينية ضمن سياق مفهومهم للحرية، لاعتقادهم أنها تقف حائلاً أمام تطور التفكير العقلاني العربي.هذا العمل هو محل انتقاد كبير لأنّ هذا الفهم بات قديماً جداً ولا تجديد فيه، وذلك لأنّ موضوع التفكير القدري ما عاد مسألة نظرية، فقد تم حسمها سابقاً، والأهم من كل ذلك وما ينتظر الحسم، هو البحث في القضايا الملحة على الصعيد الإجتماعي والسياسي، لأنهما سيضعا حداً لانتشار القدرية الدينية ولهذا النوع من نمط التفكير.
الجدير بالذكر أنَّ الحرية في وطننا العربي نالت اهتماماً كبيراً من قبل الكتّاب والباحثين وكبار المثقفين خلال عشرات السنين الماضية، وأثارت قضاياها المتشعبة والمتعدّدة جدلاً ونقاشات عديدة في المجتمعات، ولا تزال، منها ما يأخذ طابعاً متناقضاً وخلافياً شديد العمق. هذه المسائل، أصبحت في السنوات العشر الأخيرة، تنال اهتماماً وزخماً أكبر من ئي قبل، وتُعتبر ّ مصيريّة لوطننا العربيّ بعد ما شهده من الحراكات الجماهيرية التي ظهرت عام 2011 م، التي خرجت مطالبةً بالحريةِ والمساواة وبالتحوّل الديمقراطيّ. ولهذا، أصبح الخوض في هذه القضايا، في وقتنا الحاضر،على الصعيد الفكري الأولوية ،ووضع قاعدة عمليّة وعلميّة للحوارات والنقاشات والمطالب الجماهيرية التي باتت ضرورة ملحّة، ترسم اتجاه الشعب العربي في المستقبل. والحرية معرّفة بالإرادة والعقل ومشروط تحققها بهما، فالشرط الأساسي للتحرّر هو وعي الحاجة إلى الحرّيّة، بمعنى آخر إنها وعي نقصها، هناك شرط آخر من أجل تحقيقها، إذ يكتسب الإنسان الحرّيّة الحقيقية الكاملة مع نمو الإرادة والوعي. أي ربط الإرادة والوعي بالمسؤولية. لأنّ الإنسان مسؤول عما اختاره وهو مسؤول أيضاً عن نتائج اختياره، مما يؤكد أنَّ حرية الإنسان تعني مسؤوليته الكاملة عن خياراته. في هذا السياق نؤكد على فكرةٍ غاية في الأهمية وهي رفض التصور الفج والسطحي للحرية كحق الفرد في فعل ما يريد وتحقيق كل رغباته وهذه الفكرة يؤكد عليها المحافظون الذين يسعون دائماً لترويجها من أجل ترويج فكرة أنّ السلطة وحدها التي تملك قوة ردع الفوضويون وحالات الانفلات والهوج ، وبموجب هذا التصور تكون السلطة الحاكمة المهيمنة هي الدواء الشافي. نعم إنَّ هذه الحرية التي تصف اندفاعاً بلا حدود أو حواجز لتحقيق الغرائزوالرغبات، تناقض تعريف الحرّيّة المرتبط بالعقل والإرادة المميّزعن الغريزة، فهذه الحرية الطبيعية تعني في المجتمع نفي للحريات وتهدم أيّ قيمة اجتماعية تقف حائلاً نحو تحقيق الرغبات أو تقيدها. ومن ثمّ تمنع نشوء أي مؤسّسة أو جمعية اجتماعيّة من أيّ نوع.من هنا يأتي نقدنا للمثقفين الذين يرفضون القدرية الدينية في ظل استبداد وطغيان علماني، كما نوجه انتقادنا للمثقفين الإسلاميين الذين يتحدثون عن زيف الحرية ومساؤئ الديمقراطية القادمة من الغرب ويؤيدون الاستبداد برداء الدين، مع معارضتهم للحريات الشخصية والسياسية والمدنية. وموقفنا هذا نابع من فهمنا الحقيقي للحرية ومدلولها .
في هذا السياق نجد أنّ القوى السياسية التي تطرح نفسها بديلاً من قادة الدول وزعمائها تعمل على فرض نمط حياة خاصة للناس، وتعمل بكل ما تملك من جهود إلى الخلط بين المجالين الخاص والعالم المنطلقةً من الفكر الديني ، وهذا يتيح لهم التدخل في حياة الناس وسلوكهم اليومي بالإكراه.وحتى عندما تكون تلك القوى في المعارضة تفرض نفسها كسلطة اجتماعية كونها استولت على المجتمع من خلال تطبيق العادة والعرف ضمن منظومة القبيلة والعائلة والعشيرة. هذه القوى قد تستغل حالة الاستبداد التي تفرضها أنظمة اجتماعية ،حالة الحريات الشخصية في قمعها للحريات المدنية والاجتماعية والسياسية، لتصنع حالةً من ردة الفعل تتضمن مواقف ضد الحريات الشخصية كقضية هوية وطنية وأصالة عميقة .
كما يمكننا رصد بعض الحركات التي تسعى إلى فك الارتباط بين التحرر والقومية، وتعمل على تحويل الهوية إلى أيديولوجيا يتم استخدامها في مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار الكولونيالي في الماضي ،كرصيد ضد التحرر في الوقت الحاضر. فتبدو نزعة التحرر المدني والاجتماعي الفردي كأنها خارج السياق الوطني وكخيانة للأمة.
إنَّ ما تمر به المجتمعات من قضايا عالمية تؤثر بالحياة العامة بشكلٍ كبير. فمجتمعات الدول الليبرالية كانت قد حققت شوطاً كبيراً في مجال الحرية، وهي قضايا مهمة لأمتنا العربية، لأننا وقفنا في مواجهتها ونتأثر بها، في ظل النظام الرأسمالي الذي يدير العالم ويحكمه، في ظل عصر العولمة وتطور وسائل الاتصال والانفجار المعلوماتي والإعلام.فالنظام الرأسمالي الاستهلاكي فرض عبر أدواته الجديدة سيادته على نفسه أولاً وفرض عقلنة إرادته ثانياً. واستخدم الإعلام وملحقاته لتعميم ثقافة التضليل واللعب على العقول. وحجب المعلومات التي تجعله يقرر غير ما يعلن. لذا فقد أصبحت الحرية في مرمى وأهداف النظم الحاكمة مقارنة بتطبيق الديمقراطية النسبية ودرجة الحرية الممنوحة التي يتمتع بها. حتى لم تعد حرية الإنسان مهدّدة من نظام الحكم وحده ،بل يسيطر النظام الليبرالي سيطرته على مقادير متطلبات مستوى المعيشة من خلال ربطه بنظام الدفع بالأقساط .
إنَّ عملية التحول الديمقراطي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بامتلاك النخب الفكرية والثقافية لثقافة ديمقراطية عميقة جداً. وهنا يبرز التساؤل التالي حول أين المساحة المتوفرة في الوطن العربي ؟،وهل سنبني وعياً وثقافةً لازماً لقضايا الحرية واستطالاتها في ظل الحرمان والقهر في العديد من دولنا العربية ؟ نرجو أن ننهض كالعنقاء من سباتنا لتحقيق كل ما نصبوا إليه .