الفضيلة الوحيدة

أ.د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري
جاء في قصيدة للشاعر “والت ويتمان” بعض العبارات البديعة التي يصف بها نفسه فيقول: “أنا آتي مع الموسيقى قوياً، مع مزاميري وطبولي، أنا لا أعزف أناشيدي للظافرين فقط، بل أعزف أيضاً للمقهورين، إننا نخسر المعارك بنفس الروح التي نكسبها بها؛ فألف مرحى للذين فشلوا، للذين غرقت مراكبهم في البحر، والذين غرقوا هم أنفسهم في البحر. أنا رفيق الشعب وصديقه، كلهم خالدون مثلي”.
وهكذا نلحظ مشاعر “ويتمان” تجاه الناس، حيث تذوب الثلوج بين الإنسان والإنسان؛ فلا حواجز ولا سدود، فالقلب مفتوح للجميع ويرحب بالجميع. إنها فلسفته في الحياة، فهو يحبها ويقبل عليها، إنها بالنسبة إليه حبيبة يشوقها بكل ما فيها من جمال وقبح، وقوة وضعف.
لقد كان الشاعر من هؤلاء الذين يرون كل الناس كائنات جميلة، وكل المشاعر الإنسانية مقبولة، وكل إنسان له في قلبه مساحة، وعلى لسانه تجري الصلوات المخلصة لتلك الحياة التي يعيشها. ويمتد حبه إلى الزهور والأعشاب، حيث إن الإنسان عندما يتحول إلى تراب يدخل من جديد في تركيب النباتات، والنبات يتغذى من التراب الذي يتكون في جزء منه من جسد الإنسان؛ فلماذا لا تكون الزهور إنساناً جميلاً نبيلاً .
وبهذا الإحساس واجه “ويتمان” الحياة التي أحبها واحتضنها، ودعانا إلى الإقبال عليها لنبحث عن المعاني الإيجابية في التجارب التي نعيشها. والفشل الذي يواجه بعضنا أحياناً، والصدمات العنيفة التي نتعرض لها يجب ألا تفقدنا القدرة على مواصلة الطريق. وتقبل الحياة يحتاج إلى نفس مرنة ترى في الفشل خطوة إلى النجاح، وفي الألم سبيل السعادة. والذين حُرموا هذه النفس المرنة يستسلمون للتجربة الأولى، فيتسرب إليهم الضيق، وتستحيل الحياة شيئاً لا يطاق، وتصبح مرارة العيش مذاقاً لا يفارق أفواههم .
ومن جميل ما يستدعى من أشعار “ويتمان” إيمانه باحترام الحياة في أبسط معانيها، والنظر إلى الإنسان مهما كان بسيطاً في مظهره بعاطفة تغفر كل شيء، فمن هؤلاء من إذا تلقى عاطفة واهتماماً ألفيت منه ما يستحق الاحترام والتقدير. ولعلك لا تدهش عندما ترى الذين يحبون الحياة لارتباطهم بمخلوقات وأشياء ليس لها علاقة بالإنسان، إلا أن هذا الارتباط قد أكسبهم سمات إنسانية، إنهم أصحاب الفضيلة الوحيدة التي ربطتهم بالحياة. ويردد غاندي المعنى نفسه عندما يقول: “إن مذهبي ليس ديناً مغلقاً؛ ففيه مجال لأقل مخلوقات الله شأناً”.
وأذكر للعقاد عبارة أكد فيها حبه للحياة عندما سئل عنها لما بلغ عامه السبعين؛ فقال: لم يتغير حبي للحياة، ولم تنقص رغبتي في طيباتها؛ فالحياة بمعناها ولفظها حياة، وهي خير من الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى