أم الربيعين والمرور الحزين
رحلة قام بها: د. محمد الواضح
في الطريق الرابط بين أربيل ونينوى، بدأنا نغذّ المسير لحضور مؤتمر تضامني لدعم واقع السلام ونبذ التطرف في مدينة الموصل، هذه المدينة التي مضى قرابة خمس سنوات على تحررها من قبضة أعتى جماعات إجرامية سامت أهليها الويل والخسف والثبور، وسلمتها مدينة أشباح كاهلة متعبة مكدرة الصفو والخاطر، غريبة المشاهد على من زارها أمس واليوم، فما بين قاطعيها الأيمن والأيسر كلمة للحرب ورسالة للرصاص، وحديث للسوط والسيف والسبي، وراية مرفوعة للسواد، ثقافة لاتنتمي لثقافة هذه المدينة التي ينبيك ربيعاها واعتدال مناخها باعتدال أهليها ووسطيتهم وجمال مدنهم.
وأنت تمر ذلك المرور الحزين المتوجس، تتصفح الوجوه والأمكنة والديار، ولسان حالك يقول: لا أنت أنت ولا الديار ديار، فليس ثمة أصدق حزنا بعد الأمهات في الحروب، مثل واعية الأمكنة، وشواخص المدن، حيث انطفأت هنا بهجة الأرض، وترمدت عيون الأنهار، وترملت ليالي نينوى، واستحالت صباحاتها غبراء تسرد قصص العابرين.
هنا مروا، هنا وقفوا، هنا قالوا.. أطلال خاوية من الذكريات يجهش بها عويل قاطعها الأيمن، حكايا حرب مزقت خاصرة المدن، وخطفت بريقها، وشلت حركتها، فأضحت أثرا بعد عين.
لم يعد في ذاكرة ذلك النهر المتعب، ومنارة ذلك الجامع المسنّ، مايعين على سرد الحكايا وهول التفاصيل، حتى حوت يونس بات جوفه أكثر رحمة وأمانا، فهو محفوف بالتسابيح والأوراد والذكر حيث يدُ الله مبسوطةٌ حبلَ نجاة، لم يعد يونس خارج بطن الحوت بآمن حالٍ من داخلها، فقد مات شجرُ اليقطين، وانفرط عقد التسبيح… وأضعنا يونس من جديد!
والأسرار ويلمّها الأسرار موقوفة على حتف المنايا، وعدنا نهيل حفنة من الأسئلة البلهاء: من أعاد الموصل إلى أدران جاهلية جديدة؟ فهل كتب لها أن توأد على غفلة من التاريخ وتخوين النص، وفتوى شيخ كئيب لايفرق بين دير ومئذنة وهلال وصليب،؟ هل وهل وهل؟
أين كنا ؟ كم لبثنا …؟
أَرقْت ُحيرتي على ناصية التاريخ، وصرت كذلك الشاعر الذي بدا ينثر على حزنه عُجابياته:
(هل هذه قراي؟!
أبحث عن بيوت أجدادي بها*
أبحث عن وجوه أندادي
وملعبي ومنتداي*
فلا أرى سواي!)
ورغم كل هذا الألم، و المرور الحزين، ثمة عشب هناك يتلألأ من بين ذلك الركام المندثر، كابتسامة طفل صادقة ستنسلّ منه الأماني خيطا أبيض، يؤذن بفجر آتٍ، وغيث نديّ تغسل فيه أم الربيعين غبار الأزمنة وترتدي حلة جمالها من جديد لتصاحب أرضها الغيوم بعد أن هجرهتها قسرا على غير قطيعة!
فلن يخذل فلاح هذي الأرض صبر المواسم.