أمكنة بوح القيثارة في رواية (هروب الموناليزا) لـ”بلقيس حميد حسن”

أ.د. مصطفى لطيف عارف| ناقد وقاص عراقي

وبقدر ما نسعى إلى تقديم المكان / أمكنة البوح في رواية السيرة الذاتية (هروب الموناليزا) على أنه عنصر سردي يتمتع بخصوصية, وأهمية، نؤكد أن هذا العنصر لا يمكن النظر إليه من منطلق عزله عن بقية العناصر السردية الأخرى الزمن، الشخصية، ولا سيما عنصر الزمن، إذ يستحيل وجود مكان أرضي، أو غير أرضي لا يتضمن كمية من الزمن وجدت بوجوده, واستمرت باستمراره[1]، كما أن المكان لا تتجلى أبرز صفاته الجمالية إلا من خلال الزمان ,والإنسان [2], وباعتبار أن الشخصية تعد عنصراً رئيساً من عناصر السرد, وترتبط أهميتــــها بوجود العمل السردي نفسه، ولاسيما في السيرة الـــذاتية المبنية  ولو تأملنا طبيعة المكان في السيرة الذاتية بمعزل عن أساليب تقديمه، لوصلنا إلى نتيجة تؤكد أنه ليس مجرد ديكور للحدث وحسب، أو حتى بعداً كنائيّاً للحدث, أو الشخصية, أوالبيئة، على نحو ما كان سائداً في الروايات التقليدية، بل بوسعنا التأكيد أن المكان أصبح يشكل رموزه التي تعيد تشكيل أدبية النص ,والرؤية فيه، وهذه الرموز ستؤسس ولاشك بنىية  جمالية خاصة بجنس السيرة الذاتية، مما يجعل المكان في هذا الجنس الأدبي رمزاً لحياة البشر، يجسد الغربة ,والملل, والضيق ,والمفارقة, والعبور المؤقت، ويؤثر على مفهوم الزمن، فيعكس اضطرابه بين الديمومة ,واليومي، بين السطحي والعميق، وبين الوهم والحقيقة [3], ففـي رواية السيرة الذاتية (هروب الموناليزا) نتلمس معالم أمكـنة عديدة متنوعة التفاصيل  والأحوال، مما يضعنا أمام نص يمثل رحلة في ثنايا المكان، كما تؤكد بلقيس حميد  نفسها أهمية المكان بالنسبة إليها وعندها  ارتباط كبير جدّا بالمكان،فهي  اقدّر ما يسمّى بجمالية المكان في الرواية على الرغم من أنّه مذهب كلاسيكي واقعيّ ,ولكنّها  مرتبطة جدّاً بالأماكن، وأحياناً لا تعرف كيف تكتب حتى تكون جالسة في مكان بعينه [4], فنراها تقول :-  إليكم أوتارنا التي فاق عددها الحد , أنا أو هي أو هن , كلنا نمتزج ببعضنا في بوح قد يتعبكم حينما لا تعرفون من تتكلم عن ذاتها ومن تتكلم عن الأخرى , أو حين تتشابه عليكم الأزمنة والأماكن , وتختلط وجوه الناس في منطقة الحدود تنم عن شيء غامض, لكنني شعرت أن الجميع كانوا خائفين , وقد أكون أنا أكثرهم , لم أكن خافه من الموت خوفي آن لا أوصل ما في حوزتي , فأخيب من منحني الثقة بإيصال تلك الرسالة السرية الهامة التي توجب علي إيصالها والتي لا اعلم محتواها[5] ,في النص السردي وضحت الروائية بلقيس حميد الهدف الأساس من كتابة سيرتها الذاتية ,وهي رسالة موجهة إلى العالم لكشف المستور في المجتمع العراقي, من قيم ,ومبادئ مزيفة , مخفية ,وهي تحاول فضحها , وان اغلب المعاناة لتي سجلتها هي / هن   هي معاناة المرأة العراقية السياسية التي حكمت بالإعدام , وأردت الهروب إلى خارج العراق ,واعتمدت على تقنية الفلاش باك بذكر الأحداث الماضية عن طريق الذاكرة القوية التي تمتلكها, وأحداث الرواية تنطبق في كل زمان ومكان للظلم الاضطهاد , أما على الصعيد الفكري فإن بلقيس في سيرتها الذاتية تناور في أفق البلاغة, والفلسفة, والسياسة, والتاريخ في آن معاً، فهي لا تغادر المكان على مستوى الواقعة، جغرافياً، إلا من أجل أن تعود إليه رمزياً ليحتويها ,ويعلن انتماءه إليها، وعدم تخليها عنه، والإمساك به حتى الرمق الأخير, وهذا الانتماء الاختياري لهذه الأمكنة ,أمكنة الطفولة ,والشباب يقـف في موقع النقيض من وجودها الفعلي[6], فنراها تقول: منذ ولادتي وأنا أعيش كل يوم يوتوبياي وانتظر حياتي كيف ستكون انتظرت طويلا كي أعلن ثورتي انتظرت طويلا ,وفعلت الكثير لأرحل عن بلدان التعصب, والقهر الاجتماعي , لأحرر أوتاري بموسيقى صدحت داخل روحي منذ الطفولة, ولان الكرامة الشرقية في زمن الانحطاط لا تحب الموسيقى تخلى عني أهلي عندما درست الفن والموسيقى 0[7] ، وإذا كان المكان يتخذ دلالته التاريخية, والسياسية ,والاجتماعية من خلال الأفعال ,وتشابك العلاقات، فإنه يتخذ قيمته الحقيقية من خلال علاقته بالشخصية عامة [8],

ومن المهم أن نشير إلى أنه من الممكن أن يتم السرد بدون الإشارة إلى مكان الأحداث المروية، ومكان اللحظة السردي ,أو العلاقة بينهم، إلا أن المكان في حال التأكيد عليه يمكن أن يلعب دوراً مهماً في السرد، وأن السمات ,أو الوصلات بين الأماكن يمكن أن تكون هامة ,وتؤدي وظيفة موضوعية ,وبنيوية كوسيلة للتشخيص، ولا سيما في نصوص السيرة الذاتية لرواية (هروب الموناليزا) إذ يلعب المكان دوراً هاماً ,ومحورياً في تكوين مرجعيات الذات التي تحكي تجربة الروائية بلقيس حميد ،فضلا عن  دورها في جعل أحداث النص, ومواقفها ووقائعها ممكنة الحدوث، وتشي بواقعيتها, و قربها من المعقول[9], وقد تجسد المكان الأليف بشكل واضح عند الروائية بلقيس حميد وهي تروي لنا سيرة والدها الشاعر الفطري المعروف( حميد السنيد) صاحب ديوان (الحان الروح), فنراها تقول: في أرجاء بيتنا كان أبي يدور ومعه تدور أصداء صوته العذب,منشدا كل قصيدة كان يكتبها ,وتعتمل في صدره كان يعم بيتنا إيقاع حياة , وكانت الموسيقى تذوب في كلمات أبي فيضبطها بفاعلاتن وفاعلن 000 كلمات وأحرف لا افقهها , وطالما سألته عنها فيقول: ليس الآن, حتى كان  يوم حدثني فيه عن بحور الشعر وإيقاعه, وبدا يضرب على جلد كتاب سميك كان بيده ليعلمني أمورا في أوزان الشعر لن أنساها ما حييت [10], إن أهمية السيرة الذاتية عند الروائية بلقيس حميد  تنبع من ضرورة الوصول إلى تحديد طبيعة الفضاء السردي فيها، لأن الفضاء أكثر شمولاً, واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الرواية كلها، فضلا عن علاقاتها بالزمن ,والحوادث ,ومنظور الشخصيات.

 إن نص بلقيس حميد  يفرض نفسه في سرد يعادل في قيمته قيمة الوثيقة التاريخية التي تدون تاريخ مجتمع ,ومكان، وما ذكر أسماء الأماكن الحقيقية إلا تقنية استخدمتها الروائية لتوفير أكبر قدر ممكن من الإيهام الذي يجعل المتلقي يؤمن بحقيقية النص, وأحداثه,وشخوصه، وبالتالي مضاعفة طاقة التأثير به ,ولعل ولع  الروائية بلقيس بالأمكنة هو السبب، وأول ما نلحظه ذلك الحرص الشديد منها على تسمية الأمكنة، مما يشير بالتالي إلى حرصها على إضفاء بعد واقعي للمكان الذي تدور فيه الأحداث على أقل تقدير، وأول الأماكن التي تصادفنا في النص التالي هو حديثها ووصفها الرائع  للحوار بين السجين (عطشان) , والسجينة (العاهرة) وكيف صورت لنا الروائية مكان السجن ,وزمانه ,وشخصياته  ، وكأنها تفعل ذلك بقصد الدلالة على أنها مكان إجباري يكتفي منه بالهرب من الخارج، ولذلك فهي لا تشعر فيه إلا بالعزلة التامة عن الناس،وتسرد الأحداث , وتتحول هذه العزلة عندها إلى سجن يؤرقها كل تفصيل فيه, فنراها تقول :في الزمن الملكي كانت لدينا نافذة داخل الزنزانة , وفي يوما ما ,وعبر تلك النافذة سمعت صوت امرأة في زنزانة مقابلة لزنزانتي ,خفق قلبي للصوت و وأحببت أن استطلع سبب وجودها , نهضت بسرعة , وإذا بي أرى امرأة جميلة تمضغ علكا وتبتسم لي بلامبالاة وبخلاعة سافرة فخمنت تهمتها , وقلت في نفسي لأجد ما أحاورها به وأتسلى في سجني وحين سألتها عن سبب وجودها أجابت بلا مبالاة وهي ما تزال تمضغ علكتها بغنج : – أنا عاهرة , وأنت ؟ – أنا شيوعي. – نفس الشيء 00 قالت ثم أردفت : – الحكومة لا تقدر سوى علينا وعليكم [11], اخذ المكان بُعده الوظيفي ,والدلالي في السيرة الذاتية  لبلقيس حميد إذ يشكل في النص صورة تعكس وعي الروائية  للعالم، ولذلك نلحظ في سيرتها حضوراً خاصاً للمكان ,ولاسيما في مرحلة الطفولة , والذي يظهر بجلاء, ووضوح في مشاهد وصف المكان التي تشكل وثائق تعكس واقع طبقة اجتماعية تنتمي الساردة إليها، ووصف الدار يدل بوضوح على هذه الطبقة الاجتماعية الفقيرة ,‏ وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن وصف المكان لا ينطوي على دور جمالي تزييني أخاذ، وبذلك تمتزج وظائف المكان لتؤدي أكثر من دور بآن[12], وفي مكان آخر، أقرب ما يكون إلى المنفى، أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة, ولهذا فإن كتابتها عن موطنها الأول،بغداد, وبقية الأماكن التي عاصرت مراحل تكوين شخصيتها القاهرة ، بيروت, اليمن , الجزائر, عمان تمثل فيما نرى استبطاناً لوجدان ,وذاكرة, بلقيس حميد، وهي كما أسلفنا كتابة تخلق من تظهير المكان حالة ترميم لذات متشظية, وتؤدي وظيفة رمزية نفسية ,وفكرية من ناحية، كما تساهم من ناحية ثانية في تشكيل معززات واقعية حسية للبنية المفاهيمية الرمزية التي يتأسس عليها فكر, وعقل الروائية بلقيس [13] , ويتكئ الانشغال بالمكان على كون السيرة الذاتية فناً زمكانياً يقف خارج القسمة التقليدية للفنون إلى فنون زمنية وأخرى مكانية، وهو بذلك يعكس تفرداً للنوع بقدر ما يعلن تقويضاً للتقسيم ذاته[14] 0 وأخيرا نقول أن رواية(هروب الموناليزا ) لبلقيس حميد هي رواية ايروتيكية بامتياز , صورت لنا المشاهد الجنسية بكل أشكالها الأنثوية والذكورية , وقد تميزت بأسلوبها الجميل ,والشيق في سرد الأحداث  الجنسية, والاجتماعية ,والواقعية ,والنفسية, فهي تروي معاناة أجيال من النساء ,والرجال المضطهدين, وتميزت بالجرأة ,والصراحة, وكشفت خفايا النفس الإنسانية المتشيطنة , وهي تشبه إلى حد كبير كتابة, وأسلوب  جمانة حداد.

المراجع: 

[1]: م0ن :52

[2] المكان في قصص وليد إخلاصي :25

[3] مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن: 42

[4] ينظر أسئلة الرواية لجهاد فاضل :203

[5] هروب الموناليزا  بلقيس حميد حسن :13-14

[6] داخل الزمان 00 خارج المكان :22

[7] هروب الموناليزا :33

[8] الرواية العربية والحداثة ,ج1 :232

[9] ينظر المكان في قصص وليد إخلاصي :27

[10] هروب الموناليزا : 89

[11] هروب الموناليزا :32

[12] م0ن :10

[13] م0ن :23

[14] قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر :20

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى