القدس والانتخابات
نهاد أبو غوش | رام الله – فلسطين
أظهر شعبنا الفلسطيني توقا جارفا وحماسا كبيرا للمشاركة في الانتخابات، وقد تمثل ذلك في نسبة التسجيل العالية التي فاقت 93% من أصحاب حق الاقتراع، وبلغ عدد المسجلين أكثر من مليونين وستمائة ألف مواطن، وكذلك ما تشهده مختلف المناطق والمحافل والمجالس من تفاعلات ونقاشات تبدي رغبة في المشاركة إما من خلال الفصائل والأحزاب المعروفة، أو من خلال تشكيل قوائم جديدة، فبتنا نسمع عن قوائم للمستقلين، أو للأكاديميين أو العمال أو النساء أو الشباب، وأخرى للأسرى المحررين، وغيرها للقدس، أو للاجئين…
وهكذا يبدو أن كل فئات شعبنا ترغب في المشاركة، وترغب في أن تحتل قضاياها مكانة مميزة في اهتمامات المجلس التشريعي والقيادة السياسية بشكل عام، ويبدو أيضا أن الثقة في قدرة الأطر والأحزاب القائمة على حمل هموم الناس والتعبير عنها، تعرضت للاهتزاز خلال السنوات الطويلة التي غابت فيها الحياة الديمقراطية.
وينبغي التمييز من دون شك بين الرغبة المشروعة في العمل السياسي وحمل قضايا قطاعات وشرائح ومناطق مهملة ومهمشة، وبين النزعة التسلقية التي تستخدم قضايا وعناوين جذابة كشعارات لمجرد اجتذاب أصوات الناس، فالحديث عن المستقلين جميل ولكن لا يستطيع مستقل بعينه ولا مجموعة من المستقلين أن يدّعوا تمثيل كل المستقلين، والمطالبة بحقوق الأسرى المحررين محقة وواجبة ولكنها لا يمكن أن تنفصل عن حقوق العمال وقضية القدس والحريات العامة، ونواب التشريعي يجب أن يكونوا نواب وطن، لا نواب حارات ومناطق وشرائح قطاعية دون غيرها، وكأنهم مخاتير ذوو مطالب واهتمامات تخص جمهورهم الضيق دون غيره من أبناء وبنات الشعب.
مكانة القدس وحضورها وتمثيلها في هذه الانتخابات من أكثر القضايا حساسية وتعقيدا، ذلك أن هذه الانتخابات تأتي بعد الاعتراف المشؤوم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بأن القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأميركية لها، وهي خطوات أعلنت إدارة بايدن الجديدة أنها لن تتراجع عنها، وبالتالي وجدت إسرائيل فرصة سانحة لتسريع خطواتها وإجراءاتها لتهويد المدينة، ومحاربة كل ما يرمز لهويتها وانتمائها العربي الفلسطيني المسيحي الإسلامي، وشملت هذه الإجراءات اعتقالات متكررة لمحافظ القدس ووزيرها والأمين العام للمؤتمر الشعبي، ولكل أصحاب المناصب التي ترمز للارتباط بمؤسسات الشعب الفلسطيني سواء السلطة أو منظمة التحرير الفلسطينية، طبعا إلى جانب مواصلة إغلاق المؤسسات الفلسطينية، والتوسع في هدم المنازل، وتشجيع الاستيطان، وأسرلة التعليم، والتضييق على حياة الفلسطينيين توطئة لتهجيرهم، وقد تزامن كل ذلك مع إعلانات متكررة عن نية إخراج أحياء بكاملها من حدود البلدية وسحب ما يسمى حق الإقامة ( أي حيازة هوية زرقاء من دون حق المواطنة) من حوالي 150 ألف فلسطيني.
كما ترسل الجهات الأمنية والسياسية الإسرائيلية رسائل وتحذيرات، وتطلق شائعات بأن من ينتخب سوف يحرم من الهوية الزرقاء، وهي شائعات كاذبة ومغرضة هدفها تقليل نسبة مشاركة المقدسيين في الانتخابات، وتكريس عزل المدينة وفصلها نهائيا هي وسكانها عن باقي الجسم الفلسطيني.
ومع أن حق انتخاب الفلسطينيين هو حق طبيعي محمي بالاتفاقيات، ومدعوم من مختلف الهيئات الدولية، إلا أنه للأسف لم تبذل جهود كافية ولم يجر خوض معركة حقيقية لانتزاع مشاركة القدس في الانتخابات باعتبارها مدينة فلسطينية محتلة بعدوان 1967، ومواطنوها هم جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني.
وما دامت هذه المعركة لم تخض كما ينبغي، فعلى الأقل من باب التعويض الجزئي ينبغي أن تحتل قضية القدس وهمومها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية والتشغيلية والإسكانية وحق جميع الفلسطينيين في وصولها ودخولها، وأوضاع مقدساتها ومؤسساتها وهموم شبابها وعموم مواطنيها مكان الصدارة في اهتمامات القوائم، لا لاستدراج الأصوات بشكل انتهازي، ولكن على شكل خطط واقعية قابلة للتنفيذ، فلا يكفي ترديد شعار أن القدس هي عاصمة فلسطين الأبدية، وأنها درة التاج، وأهميتها الدينية في عقيدة المسلمين والمسيحيين، فالجميع يعرف ذلك، إنما المطلوب أن نعرف ما الذي سيفعله النواب لإنقاذ مستشفى المقاصد والمطلع وشركة الكهرباء، وكيف سنواجه عمليات هدم البيوت، وهل سيجري العمل على إنشاء صناديق للإسكان، وكيف سندعم المدارس الفلسطينية ونعيد إحياء مؤسسات المدينة، والأمر ذاته ينطبق أيضا على ضواحي وبلدات القدس خارج الجدار، التي فصلت بشكل قسري وتعسفي عن مدينتها الأم التي ارتبطت بها لمئات السنين، كما ينتزع الوليد من حضن أمه، وتحول قسم من هذه الضواحي إلى ما يشبه العشوائيات من ناحية الأبنية والطرق والتخطيط، في غياب تام للسلطة والقانون، وانتشار الفوضى.
القدس ليست مجرد قضية عاطفية ووجدانية، بل هي مجموعة من القضايا والهموم المباشرة والملموسة لمئات آلاف المواطنين، ونمط حياتهم وصحتهم وتعليمهم وأماكن سكناهم والمؤسسات التي ترعاهم، فإذا استثمرنا في تحسين حياة هؤلاء وحقهم في الحياة بكرامة في مدينتهم وقراهم وبلداتهم، نكون قد عززنا صمودهم، واستثمرنا في أهم جبهة لمواجهة مخططات التهويد والتطهير العرقي.