قصة قصيرة: بين وَتَــرَين

نهى الطرانيسي | القاهرة

ليلة قمرية والجو يبدو صيفيا مريحًا يحمل نسائم رطبة تهدي للجسد منحة سماوية في تلك الشهور … لكن تقلبي ليلا على كلا الاتجاهين أقلع عن عيني محاولات النوم، نهضتُ جالسًا مواجها تلك الآلات القابعة على الكراسي التي تبدو في الجو شبه المعتم كالجدّة وحفيدتها الشابة … كان ذلك العود وجيتاري.

تسلل إلى أذني صوت أبي وهو يمرنه بالغناء مع الآهات الطويلة والأخرى المفخمة بصوت أوبرالي وأنا بالغرفة أبتسم يأسًا، وأطبق يدي على الأخرى.

من يسمعنا في هذا الوقت الذي شارف على الإصباح، يظن أن والدي يتمرن ليؤدي على إحدى المسارح العتيقة.

تربيتُ ونشأتُ عاشقًا للأحرف الموسيقية والتوائها فوق الأسطر، وكأن طبيعةَ حالها الرقص والتنقل، وليس السكون. وكان ذلك بفضل أبي، كان أمام عيني – ببذلته الأنيقة واعتنائه بالعود وقوة صوته – لوحة متحركة، تعلقت بها نفسي.

انتظر يقرع الباب ليوقظني ويأخذ العود، بظهره المُنْحَني… تراجع شَعْره الضئيل كثيرا.. خطوات متقاربة ويد ترتجف من الضعف، تقبض على الآلة بقوة غير معهودة… ثم يعود الأب دارجا خارج الغرفة.

مع انقضاء عمل الشمس وذهابها بعيدا وترك حرارة لهيبها بيننا، يبدأ عملنا أنا وأبي، أو بصفوة القول الذي أُرغمت عليه. فتنثر أقدامنا خلفها خطوات مختلة ممزوجة بين خفة لا تكاد تلمس البسيطة فتدرك الأرض ريعان صاحبها، وأخرى توغل فيها علَّها تترك أثرًا لا ينسى.

دخان مختلط بأصوات متضاربة لزعيق وضحك وصفير، جر الكراسي، والتصفيق لعامل المقهى لأخذ الطلبات. ذلك كان مسرحًا من مسارح أبي، فأي مقهى أو مطعم منثور الكراسي على الطريق يعتبر مسرحَ أبي حتى وإن لم يطلبه… أحدهم يناديه بترحاب مادًّا له بكرسي ليطربه والجالسين معه… وآخرون كُثر يصرخون له بالاقتراب لتسليتهم، يتفوهون بنكات أعرف مغزاها، فأفور غضبا داخليا، وأنظر لوالدي عسى عدوى الغضب تتلبسه.. تواضع لحد الذل وبسمة ملفقة، وإن واجهته نصحني ألا نكترث للصغار، إنهم صغار العقل والقول!

(لكننا إن تركناهم تمادوا وسمحوا للآخرين بمثل ما فعلوه، ولم يدركوا سمو عقلنا وترفّعَنا!)

(دعنا نجلس لنضبط الأوتار …اهدأ قليلا)

(سئمت العزف بذُلّ وتواضع، وكأننا نستجدي، لا أننا نعمل بها)

تنهد الوالد عميقا معلنا رغبته في الصمت، فأردفت قائلاً:

(اقبل يا والدي استقالتي إن كان هذا عملا… وليتك تستقيل أيضًا)

في نهاية اليوم افترقت عن والدي بعد رجوعه للمنزل، ظللت أسير وقدمي تطرق الأرض طرقا واضحًا، وكأن ثقل جسدي المعتدل تركز فيهما، من كان يراني يظنني مسحورا بعيني المتسعة التي لا يطرف لهما جفن، مستغرقًا في التفكير… وافاني تعب السير ليحثني إلى الجلوس على إحدى المقاهي العتيقة … بعد شرب قارورة ماء بارد… انتبهت لصوت الجيتار المستقر على ركبتي، مرّرت أصابعي وهي ترقص على الأوتار، عجبت من شجاعتي، اختزلت حاستي السمع والبصر في أذني التي أخذت تتلمس كلمة تشجيع أو همهمات تعجب حتى هدأت عن البحث حين زادت الكلمات الحاثة باستمرار الغناء وجر الكراسي للالتفاف حولي !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى