أدب

ملكة الفراشات

مقاطع من كتاب "ريشة شغف"

د.ريم عبدالغني

اسمها آنيا.. جارتي البولونية الرقيقة..
ولربما جعلها تحريف الاسم -بالعربية- اسماً على مسمى.. فهي دائماً آنية تزهو بورودها..
منذ اللحظة الأولى وجدتْ مكانها في قلبي..ولا أعتقد أن أحداً يمكنه أن لايحب هذا المخلوق الوديع..
فراشة ملونة.. هذا هو الانطباع الآسر الذي أملاه عليّ وهجها منذ دخلتْ.. كأنها تسللتْ من قصص الأطفال.. شعرتُ بلفح رفيف أسراب العصافير التي تتبعها وتعبث بأطراف ثوبها المزركش المتراقص على أنغام لا تسمعها الا آنيا ومن »فهم» حضورها..
هيفاء ممشوقة القوام..تعقص شعرها الذهبي بأناقة وبساطة فوق رأسها.. اخضرار فاه في عينيها.. لون بحر يرق ليلتقي الشاطئ..يبث في السكينة.. ويأخذني في أبعاد تتوارى خلف ابعاد..
تلتمعان -بين حين وآخر- بشقاوة بريئة..توقظ في ّ بهجة طفل اتبع في هنيهة جرأة أهواءه متجاهلاً وعيد العقاب..
لذلك-ربما- لا أستطيع تحديد عمرها..تبدو خارج مدارات البشر الذين يتحولون بين المهد واللحد مشدودين إلى عقارب الزمن..
ابتسامة-شمس.. لاتغرب عن وجهها الأبيض المتورد..
فوق صدرها وفي معصمها نثرت حلي ملونة في شكل ورود كبيرة.. تخطف البصر بلونها الفاقع..
قبل ان تجلس وضعت في وسط الطاولة الخشبية انية ملأى بورريقات الحبق الخضراء مشيرة:
“يجلب الحظ.. ويحب الماء”
قالت ذلك بلغة انكليزية سليمة وبصوت ناعم.. بل ناعم جداً.. يتناسب ورقتها.. مع أنه يبدو لطفلة ابنة خمس..
أجل.. كانت جارتي آنيا المفاجأة الحلوة في ذلك اليوم المتعب الذي بدأت به حياة جديدة -أملت أنها قصيرة- بعد اضطراري للانتقال من دمشق الى بيروت بسبب الحرب..
أحدق بأثر جلوسها على الأريكة بعد ذهابها متساءلة إذا كانت حقيقة أم وهم.. تلك الجنية نورانية الوجه التي زارتني هذا المساء..
***
تبث آنيا بعض روحها في كل ما تقوم به.. حتى في قوالب الحلوى اللذيذة التي كانت ترسلها لي أحيانا.. وأفرح بها..
طوفان محبتها يغمر كل ما حولها…
كزوجها المعاق.. لم يكن كرم معاقاً قبل ثلاثين سنة،.والداها كانا وقتها مدرسين جامعيين يساريين يقدسان العمل والعلم.. وهي كانت قد أنهت لتوها دراسة الفنون.. أحبت كرم رجل الأعمال اللبناني وتبعته بعيداً عن بلدها الذي كان معزولاً عن العالم.
وأمها المريضة.. «كل يوم إضافي معها كنز»، هكذا تصف آنيا علاقتها بالعجوز التي محى الزهايمر ماضيها ولم تعد تتعرف إلا على ابنتها الوحيدة..
بل وتحنو حتى على نباتات حديقتها التي أتمتع بمهرجان ألوانها من نافذتي كل صباح..
وتطال محبتها أيضاً كلبها الأسود الأعرج.. واضح أنه ينتمي لسلالة خاصة من الكلاب لتتياهى باقتنائه كما هي الموضة السخيفة.. لكنه بالتأكيد جزء من حياتها.. يتبعها بحب.. يخيل إلي أني أراه في عينيه.. ألم تنتشله آنيا جريحاً من ثلج الغابة القريبة قبل أن تتطببه وتضيفه الى قائمة من تعتني بهم؟..
***
لم يفسد سعادتهما -هي وزوجها- أن الله لم يرزقهما بأطفال.. كل شيء بدا جميلاً في السنوات العشر التي عاشاها في لندن.. إلى أن.. عادا إلى لبنان..
تحول كرم المحب خفيف الظل.. إلى شخص آخر.. فإضافة الى المرض الذي غير طباعه. صب الطامعون بماله الوفير حقدهم. في همسات تحريض كانت تتناهى الى مسامعها..
وصارت حياتها ركضاً مكوكياً بين زوج قاس لاذع اللسان.. لا يرضيه شيء..وأم حكيمة لم تعد ملاذاً بعد أن جعلها المرض طفلاً ً مثيراً للشفقة..
أين بلدتها الهادئة؟.. وأين والدها الحاني الذي رحل فوق كتبه ذات مساء؟.. والماضي الجميل.. هل كان وهماً؟..
***
مع ذلك كله .. تزقزق آنيا..
تتبنى نشر الفرح..
تصر على اصطحابي خارج المنزل.. وتقضي أوقات طويلة تحادثني عساها تبث التفاؤل في قلب أضنته الحرب وكسرته الغربة..
كيف لا أخجل من قنوطي أمام ما تبديه هذه المرأة المحاصرة بالألم من حب الحياة؟..
أجل كان وجودها بقربي نعمة..
لكنها -كمعظم الأشياء الجميلة- لم تدم للأسف..
فقد انتقلت آنيا مع زوجها وأمها المريضة وخادمتها وكلبها إلى مكان آخر قبل عام..
وانقطعت اخبار «ملكة الفراشات «عني..
***
ما زلت ابتسم كلما تذكرتها.. وكثيراً ما أذكرها..
أراها في شجيرات كبرت كانت قد زرعتها في مدخل البناء..وكلما مررت اصابعي بحنان على قلادة الكهرمان العسلية..هديتها لي بعد عودتها من زيارة إلى وارسو.. بل يخيل إلي أحياناً سماع صوتها الطفولي في ثرثرة العصافير التي ما زالت تزور شرفتها..حيث اعتادت أن تلتقط فتات الخبز من يديها البيضاوين الرقيقتين..
رغم غيابها.. ما زالت آنيا تبث فيّ التفاؤل..
لبعض الأرواح حضور يتجاوز المكان والزمان..
آنيا.. يا صديقتي..
دوماً.. أدعو الله أن تكوني سعيدة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى