عازف الناي

يوسف حطّيني | شاعر وأكاديمي – جامعة الإمارات

“تحكي قصيدة (عازف الناي) حكاية صديقي العازف الّذي ترك المخيّمَ، وتاه  في المنافي عشرين عاماً، ولكنّه عادَ إليه؛ لكي يورّث نايَهُ إلى فتىً يستطيعُ أن يعزفَ لحنَ الفرح”.

يا تلكمُ الأيّامُ لم تغبِ

أفدي بأمّي ضَوعَها وأبي

///

تنثالُ مثلَ حكايةٍ خطرَتْ

تحكي حنينَ الدّمعِ للهُدُبِ

///

ولها صدىً يزهو بنا صُوَراً

تختالُ بين الشّكِّ والرّيَب

///

ما أنس لا أنسَ الذي عزفتْ

يوماً أصابعُهُ صدى تَعَبي

///

النّايُ في يدِهِ كأُحْجِيَةٍ

ترمي سَمَاءَ العُرْسِ بالشُّهُبِ

///

يا نغمةَ اليرموكِ.. أشعلَها

في النّايِ شلّالٌ من اللّهبِ

///

هاروتُ ينفُثُ سِحْرَهُ وَجَعاً

 في السَّمْعِ إن تسكبْه ينسكبِ

///

كمْ كنتُ أرجو أن أسائلَهُ

عن همِّهِ المجبولِ بالتّعَبِ

///

عن حُزن نايٍ ذابَ في يدِهِ

عن جرحِهِ، عن سورةِ الغضَبِ

///

لكنّها الأيامُ ما فتئتْ

تُنئي وتُدْني دونما سببِ

///

وتقّدّرُ الدُّنيا على بُعُدٍ

 من كنتَ تحسَبُهُ على كثَبِ

///

ويتوهُ في جَفنِ النّوى رجلٌ

فيصيحُ منه التّيهُ: واعجبي!!

///

يا عازفاً لحنَ الضّلوعِ مضَتْ

 عشرونَ لم أسألْ، ولم تُجِبِ

///

عشرونَ كادَتْ تنثني ترَحاً

وتقولُ للبُشرى أن اقتربي

///

عشرونَ مرّتْ ما سمعتُ بها

 لحناً كعزفِ النايِ أثّر بي

///

يا أيّها المنفيُّ هل رحلتْ

 عيناك من حزنٍ إلى طرَبِ؟

///

أتمرّغتْ دنياك وحلَ أسىً؟

 أم عشتَ بين الخزِّ والقصبِ؟

///

ثم انثنت لتعيدَ سيرتَها

 من غيثِ عُمْرٍ جادَ بالكُرَبِ

///

حتى رأيتكَ بعد أن غلبتْ

خضرَ الغصونِ قساوةُ الحَطَبِ

///

أينَ الّذي أمداءُ نظرتِهِ

 وطنٌ تجلّى في حنينِ صَبي

///

والنّايُ أينَ النّايُ تحملُهُ

صوتاً على ذِكرى البلادِ رَبي

///

فيهبُّ من صوبِ الجليلِ شذىً

 ونذوبُ بينَ التّينِ والعِنَبِ

///

مَدَّ اليدَ العجفاءَ راعشةً

في جيبِ معطفِهِ على تعَبِ

///

فأطلّ من يدِهِ على خجَلٍ

 نايٌ يلوحُ بلونِهِ الذّهَبي

///

وروى أسىً حُمْراً مدامعُهُ

يبكي على أحزانِ مرتقبِ:

///

“هذي هي النّاي التي عزفتْ

 أفراحَ جَدٍّ طاعنِ النّسبِ

///

زَفَّتْ إليهِ عروسَه فرساً

 فسعى يحنُّ لأصلِها العَربي

///

واستقبلتْ أولادَهُ تَبَعاً

وتمايلتْ في غُصْنِها الرَّطِبِ

///

لم تنسَ تلك النّاي إخوتها

لم تنس غصَّةَ غابةِ القَصَبِ

///

حتى أتى صَهيونُ يُشعِلُ في

وطنِ المحبّةِ نارَ مغتصِبِ

///

فبكتْ بكاءَ النازحينَ وفي

أعطافِها شوقٌ إلى النّقبِ

///

أيطيبُ ماءُ القهرِ أشربهُ

 إن كان طعمُ العيشِ لم يَطِبِ

///

حزنُ المنافي قصَّ أجنحتي

 فقضيتُ بينَ الجوعِ والنَّصَبِ

///

والنّايُ في حزن تناشدُني

 أمحو بقايا دمعِها السَّرِبِ

///

خُذْها.. وخُذْ عنّي وِصَايتَها

ما عادَ لي في العُمْرِ من أرَبِ

///

خذها لتمنَحها فتىً بطلاً

يرمي زمانَ النّفْيِ بالحصَبِ”

///

فأخذتُ منه الناي ثمّ مضى

 موالَ حزنٍ غير ذي صَخَبِ

///

وحَمَلتُها كدراءَ باكيةً

 ووهبتُها شِبْلاً بصبرِ نَبي

///

جعلَ الفتى الآهاتِ مثلبةً

ورأى الخِيَانَةَ سوءَ منقلَبِ

///

ورأى طريقَ الحقِّ يصنُعُهُ

فجرٌ من الأسيافِ والقضُبِ

///

ودمٌ زكيٌّ جَلّ باذلهُ

في رتبةٍ تعلو على الرُّتَبِ

///

وإذ امتطى ذاك الفتى فرساً

وسعى لأرضي سعي مقترِبِ

///

عزفتْ لهُ نايُ الأسَى فرحاً

 ألحانَ يومِ النَّصرِ والغلَبِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى