البنية السردية في ديوان يد بيضاء في آخر الوقت للشاعر محمد السيد إسماعيل
ملامح الإبداع في شبين القناطر
د. محمد سعيد شحاتة
ناقد وأكاديمي مصري – جامعة الإمارات
إذا نظرنا إلى العنوان (يدٌ بيضاء في آخر الوقت) فيمكننا تكييفه نحويًّا من ثلاث زوايا: الأولى النظر إليه على أنه جملة اسمية مكتملة الأركان، مكونة من مبتدأ وخبر (يدٌ) مبتدأ، وشبه الجملة الجار والمجرور (في آخر) هو الخبر، ويكون المبتدأ/ يدٌ موصوفًا بلفظ (بيضاء) وفي هذه الحال يكون العنوان دالا على الوصول إلى النهاية، ويكون الديوان تجربة انتهت، وتوصلت الأنا الشاعرة إلى نتيجة مؤداها أن اليد البيضاء كانت هي النتيجة والنهاية، ومعنى ذلك أن الحكم في الجملة/ العنوان هو حكم ناتج عن تجربة مشاهدة وواقعية، وهو نتيجة ماثلة أمام الأنا الشاعرة قد سجَّلتها بوضوح وأمانة، والزاوية الثانية من التكييف النحوي للعنوان هي أن يكون العنوان جملة فعلية (تكون يدٌ بيضاء في نهاية الوقت) وفي هذه الحال فإن لفظ (يدٌ) فاعل لفعل محذوف تقديره (تكون) والجملة هنا ليست جملة ناقصة، ولكن الفعل/ تكون فعل تام، وليس فعلا ناقصًا من كان وأخواتها، والعنوان من هذه الزاوية التأويلية يعبر عن أمنية تتمناها الأنا الشاعرة، ومعنى ذلك أن التجربة التي تعيشها الأنا الشاعرة لم تنتهِ بعد، وترجو أن تكون نهايتها يدًا بيضاء، وسوف نتوقف أمام ذلك لاحقًا في حديثنا عن التكييف البلاغي، والعلاقة بين الدلالة الإدراكية والدلالة الإيحائية للعنوان، أما الزاوية الثالثة من التكييف النحوي للعنوان فهي أن يكون العنوان جملة فعلية، ولكن الفعل فعل ناقص (تكون يد بيضاء في آخر الوقت) وفي هذه الحال فإن لفظ (يد) هو اسم للفعل تكون والجار والمجرور خبر للفعل تكون، وهذه النظرة التأويلية ترى أن اليد السلبية سوف تتحول في نهاية الوقت وتكون حانية؛ لأن الفعل الناسخ ينسخ الحكم في الجملة، فإذا قلنا سوف تكون يد بيضاء في نهاية الوقت، ونظرنا إلى الفعل تكون على أنه فعل ناسخ فهذا يعني أن التغير هو الحاكم للمعنى، وتجربة الأنا الشاعرة من هذه الزاوية التأويلية هي تجربة مستمرة وممتدة وراصدة، وترى أن الأمور تسير نحو اليد البيضاء، ومهما كانت الأمور فإن التغير سوف يكون حاكما في التجربة التي تتحدث عنها الأنا الشاعرة، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، على أننا إذا نظرنا إلى الجملة على أن فعلها ماض (كانت يد بيضاء في آخر الوقت) فإن هذا يعني أن التجربة انتهت والأنا الشاعرة ترصد نهايتها، وهو ما يتلاقى مع الدلالة الأولى، أي كون العنوان جملة اسمية، وفي جميع الأحوال فإن لفظ (يد) قد جاء نكرة، وهو ما يدل على العموم والشمول، بمعنى أن اليد البيضاء ليست محددة، فهي تمتد إلى جميع العناصر والملامح والكائنات والموجودات، وكل العناصر الإدراكية التي يمكن أن تقدم خلاصًا لما تريده الأنا الشاعرة، ثم تأتي الصفة/ بيضاء لتخصص تلك النكرة/ يد، بمعنى تزيحها من دائرة الظن إلى دائرة اليقين، فدائرة الظن يمكن أن تذهب بهذه اليد إلى أنها يد ضالة مضلة، أو يد تقود إلى الهلاك، أو تقود إلى المجهول إذا قلنا (يد في آخر الوقت) دون أن نذكر لفظ (بيضاء) وهنا تكون دائرة الظن، بمعنى أننا نظن أن هذه اليد يمكن أن تكون ضالة ومضلة، كما يمكن أن تقود إلى الهلاك أو المجهول، وكلها دلالة سلبية، ولكن مجيئ الوصف بيضاء يزيح ذلك الظن، أي يزيح الدلالة السلبية ليدفع بدلالة إيجابية/ بيضاء، ومن المعروف أن اليد في الثقافة العربية لها كثير من المعاني والدلالات، فاليد تشير إلى القوة والسلطة، والقدرة، فالعرب كانوا يقولون (البلدة في يد الأمير) أي تحت سلطته، وكانوا يقولون (هم يد على غيرهم) أي متفقون ومجتمعون على غيرهم، واليد قد تشير إلى التعليم والتربية، فعندما يقول العربي (لقد خرجت من تحت يد فلان) أي علمني ورباني، واليد تعني السخاء والكرم، والأفضال، ويقول العرب (فلان له أيادٍ بيضاء) بمعنى نعم وأفضال، واليد البيضاء تشير إلى النعمة والإحسان، واليد الطولي هي صاحبة الفضل الأعظم، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم يقول (اليد العليا خير من اليد السفلى) أي اليد التي تعطي وتمنح، ومعنى ذلك كله أن اليد عند العرب تدل على القوة والحماية، كما تدل على الكرم والفضل والإحسان، واليد البيضاء هي يد بين يدين: واحدة مغلولة إلى العنق/ البخل، وأخرى مبسوطة كل البسط/ التبذير، وهنا تأتي دلالة كون اليد نكرة في العنوان؛ فهي تشمل كل ما تقدم، ووصفها بأنها بيضاء أزاحها – كما أشرنا – من الدائرة السلبية ليدفع بها إلى الدائرة الإيجابية، كما أزاحها من اليد الأولى/ المغلولة إلى العنق/ البخل، وكذلك أزاحها من اليد الثانية المبسوطة كل البسط/ التبذير، وهو ما يعني بشكل أو بآخر أن اليد البيضاء عند الأنا الشاعرة هي يد وسطية ومعتدلة في كل شيء، في المنح والمنع، وفي العقاب والثواب، فكل شيء عندها بمقدار، وهو ما سوف يكون له ملامحه الدالة في الديوان، أما كون العنوان جملة اسمية فإنه يدل على الثبات؛ فالجملة الاسمية تدل على الاستقرار والثبات، أما الجملة الفعلية فإنها تدل على الحركة والتجدد والاستمرار، وهو ما يتناسب مع ما ذهبنا إليه من أنَّ كون العنوان جملة اسمية يدل على أن التجربة في الديوان هي تجربة انتهت، والأنا الشاعرة تسجل نهايتها الماثلة أمامها، فهي نهاية ثابتة مشاهدة وماثلة للعيان، وقد تحققت نتائجها، وأما كون العنوان جملة فعلية فيذهب بنا إلى أن النتائج المرجوة/ يد بيضاء سوف تكون متجددة ومستمرة ومتحركة، وهو ما يتناسب مع أمنية الأنا الشاعرة فيما سيكون في المستقبل بالنسبة للتجربة الماثلة في الديوان.