الجرأة والجمال في ديوان “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”
الكاتب: د. أحمد رفيق عوض| فلسطين
قصيدة الشاعر فراس حج محمد تتدفق بعفوية وحيوية فائقة، فالقصيدة لديه سريعة الاشتباك وسريعة الاشتعال والإشعال، تواجه وتشتبك، بحمولة لغوية وتصويرية قريبة ولكنها مفاجئة، عادية ولكنها صادمة إلى حدٍ بعيد. في ديوانه “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت” الصادر عن دار بدوي مؤخراً، ينشغل الشاعر بالشعر والشعر فقط، فالقصيدة مرجعية ذاتها، والكلام سيد نفسه أيضاً، فقصيدة الشاعر لها تاريخ وطبقات متراكمة من الوجدان الموسيقي والذاكرة اللغوية، ولأقل الموسيقية أيضاً، ولهذا يترك فراس حج محمد قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة ليذهب أو لأقل يرتاح في أحضان القصيدة العمودية التي يجد فيها الفضاء الواسع ليغني أو ليرقص أو ليتحد المعنى العجيب بالموسيقى الظاهرة العالية الأعجب، فهو مسكون بأصدقائه الشعراء “العراة والقديسين والأنبياء”.
اكتفاء الشاعر بالشعر أو بالقصيدة جعله يكتفي أيضاً بذاته، إذ إن كل قصائد الديوان “السميك” الذي بلغ 246 صفحة على غير عادة الدواوين الحديثة، تدور حول ذاته، أصدقائه ومعارفه وقراءاته ونسائه المتخيلات، لم يخرج الشاعر من ذلك، لم يدع انشغالاً مفروضاً عليه أو مطلوباً منه، ولم يكتب ما يطرب الآخرين بل ما يطرب قلبه ووجدانه، وقد يقول قائل: لماذا لم يحضر الهم العام في هذا الديوان؟! وبرأيي أن هذا السؤال خارج عن الاهتمام، فالشاعر له أن يقول ما يريد وكيف يريد، بل إن انصرافه عن الهم العام– بالمفهوم الشائع– قد يكون رسالة ضمنية عن الرفض والاستنكار.
وقصائد هذا الديوان في مجملها لا تشبه الى حدٍ بعيد ما تراكم من شعر حولنا، فقد ابتعد فراس حج محمد عن الغموض المدّعى أو المتعمد، وفارق الابتذال أو التبذل ولم تُغْرِه تمثل التجارب الغربية لا شكلاً ولا موضوعاً، ولم يجعل من قصيدته كياناً يدعي الفهم والكشف والتنبؤ. قصيدة فراس قصيدة تشبه وجدانه وتشبه عالمه تماماً، جارحة وحارقة وتتقافز طيشاً وحكمة وألفاً وشقاوة.
وفي هذا العدد بالذات، يمكن القول إن مثل هذه القصائد–وغيرها قليل– يمكن أن تشكل ملمحاً جديداً للتجربة الشعرية الفلسطينية على الأقل هنا في الأرض المحتلة، وقد يكون في هذا الحكم بعض تسرع، ذلك أن القصيدة الفلسطينية– على اتساع التجارب والجغرافيا والأسماء والمؤثرات- تبدو بلا أب واحد ولا مرجعية واحدة، وربما أيضاً أن القصيدة الجديدة– وبسبب من شيوع التكنولوجيا وسهولة النشر وقلة النقد– فقدت الكثير من القواسم المشتركة التي كانت تحكمها ذات يوم، وقد نجت قصائد فراس حج محمد من مثالب كل ذلك، فهي قصائد تعرف مقاصدها، وتعرف منابعها وتتقن أدواتها اللغوية والبنائية والجمالية، وتخضع لقوانين الشعر كما عرفه العرب الأوائل، وإذ يلوذ فراس بالقصيدة العمودية تلك التي تم إهمالها بحجة القيود أو عدم الحداثة، إنما يفعل ذلك لتأكيد ذلك الجميل والغامض والشهي في الشعر، أقصد الكلام السحري المموسق، الذي يرفع فيه الكلام إلى مقام الترتيل أو التعويذة، وفي اشتباك فراس حج محمد مع الشاعر العظيم أبي تمام عن القصيدة، فإن كلا الشاعرين يتفقان على “أن وصل الشعر ماء حياة، أسطورة القول المقدس في قلوب الآلهة”.
لغة فراس الشعرية لغة أنيقة وعالية ولكنها لا تترفع أيضاً عن التقاط الجميل في العامية أو التقاط المضامين الشائعة لتوظيفها في نص أنيق ومحترف، ولأنها كذلك فهي أيضاً ترتفع في بعض الأحيان لتكون لغة قاموسية، فالشاعر مثقف وقصيدته كذلك أيضاً، وهو ما يزيد في جمالها وقيمتها، ولأن القصيدة مرجعية ذاتها كما ادعيت آنفاً، لهذا نجد أن الشاعر يتصرف بحرية ويكتب بحرية أيضاً لتبدو القصيدة وكأنها محكومة لمنطقها وسياقها، وهذا يطرح السؤال ما هي مرجعيات الشاعر أذن؟! وهذا سؤال قد يبدو خارج السياق أيضاً، ولكن قارئ الديوان لا يمكن له إلا أن ينتبه إلى هذا الملمح، وبعيداً عن الجواب، فإن فراس– وكما أعتقد– شاعر أصيل يقول كل شيء، الشاعر يقول الشيء ونقيضه. الشاعر يرى– أن حقاً أو غير ذلك– أنه قادر على هدم العالم وتركيبه من جديد… هذه هي أحلام الشعراء الدائمة، ولذا هم محبوبون عند كل الجماعات والشعوب… هم البراءة والجمال الباقي فينا.
وديوان فراس حج محمد في مجمله يدور حول العشق الحارق والكاوي، عشق ممتد وواسع، عشق يشمل الكون وتجلياته، منابعه الأول، نسغه الأول، دهشة الخلق، طزاجة العالم، ولا يتجسد ذلك إلا في المرأة، القادرة على الإزاحة الموت “وتمر نحو السوق لتشتري الفساتين الجديدة”.لا أجانب الحقيقة إن قلت أن هذا الديوان هو ديوان مكرس للمرأة وأن الشاعر “يحوم في قصيدتها كروح”. وأن الحب الذي يكتب عنه فراس “أكبر مما يظن قارئ متعجل مهووس”.
ولأن الأمر كذلك، فهو يكتب في هذا الديوان ذروة قصائده وذروة وجدانه “في مديح النهد” وهي مجموعة قصائد فائقة البذخ، راقصة، رقراقة، تفيض وجداً وهياماً، يرفع فيه الشاعر حسّيته العالية إلى تجريد بالغ الإيحاء، فالنهد هنا أرض أولى وامرأة أولى وفرح أول، وإذا كان في اللغة ما يوحي بشبقية ما، فإن هذا هو المستوى الأول للقصيدة ولكن وبقراءة ثانية نرى أن الشاعر– كما كل الشعراء الذين سبقوه في هذا المجال– يرى في المرأة “فاعلاً ومنفعلاً ” في ذات الوقت، وكأنها الجذوة التي تضيء الوجود كله، الحسية أو قل الشهوانية التي تفيض بها النص الصادم والمفاجئ سرعان ما يتخذ تجريدية تقودنا إلى المعاني الأولى أيضاً، وبهذا فإن فراس حج محمد يأخذنا بقصيدته القريبة المفاجئة، العادية الصادمة، إلى مستوى من الشعر الجيد والجميل ما نحن بحاجة إليه. وقد يعترض معترض أن مثل هذه القصائد فيها جرأة عالية وقد تكون غير مُسْتَحبة أو أن الظرف لا يسمح بها أو أنها تبدو وكأنها تلامس تابوهات متعددة، وقد يكون في ذلك بعض حق، ولكن الشعر هو الشعر، وهو دائماً في أزمة مع محيطه وبيئته، حتى القرآن الكريم خصص للشعراء بعض آياته باعتبارهم أول الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون ويحلمون في كل الوديان ويركبون المصاعب والمتاعب بحثاً عن المعاني الطريدة والأقوال الفريدة، هم الذين يطاردون الجمال باسمنا جميعاً، وسنقبل غلوائهم وعلوائهم قليلاً، ولنستغفر الله لنا ولهم جميعاً.