التشكیل البصري في شعر عبد الرزاق الربیعي

 

صادق البوغبیش طالب دکتوراه | جامعة خليج فارس، بوشهر – إيران

إشراف: د.رسول بلاوي | جامعة خليج فارس، بوشهر – إيران

r.ballawy@pgu.ac.ir

الخلاصة

إنّ الخطاب الشعري الحدیث لم یُعدّ مجرد کلمات وأفکار بل أصبح یعتمد علی الرسوم والأسالیب المختلفة؛ ولكل شاعر خصوصیّة تمیّزه عن باقي الشعراء في انتقاء الأسالیب البصرية، ولربّما یعید تشكیل النص عدّة مرّات لیناسب الدلالة الشعریة المقصودة وإیصالها إلی المتلقّي، ولسهولة هذا الأمر أخذ الشعراء یبدعون فنوناً بصریة حدیثة علی الورق لسهولة التعبیر بالشکل والصورة وقد أصبحت هذه التقنيات البصرية من أهمّ خصائص التعبیر الشعري الحديث. من أبرز الشعراء الذین اتّجهوا إلی التعبیر بالأسالیب البصریة هو الشاعر العراقي-العُماني المعاصر”عبدالرزاق الربیعي”. فقد وظّف هذا النوع من التعبیر في تجربته الشعریة لرفد نصوصه بشحنات دلالیة وفقاً للرؤی والأفكار التي یرید التعبیر عنها.

یهدف هذا البحث وفقاً للمنهج الوصفي- التحلیلي إلی دراسة ظاهرة حداثویة أتت بها ثورة التجدید الشعریة وهي ظاهرة التشكیل البَصَري في القصیدة العربیّة الحدیثة، کما یسعی لتطبیق الإطار البصري في قصائد الشاعر العراقي-العُماني المعاصر عبدالرزاق الربیعي. وقد توصّل البحث إلی أنّ أبرز المظاهر البصریة المستخدمة لدی الربيعي هي علامات الترقیم، والتنقیط، والصمت، والسواد والبیاض، والشكل المتموج، وتفتیت الكلمات. وكلّها تعبّر عن اضطراب الشاعر وتوتّره واغترابه عن الوطن ووحشته، ويکشف عن تجسیم آلام الشاعر وضغط الحنین إلی الوطن النائي البعید.

توطئة

یبحث الشاعر عن تقنیات وأسالیب مختلفة لكي تجلب انتباه المتلقّي وتدخله في عالم الخیال لیتصوّر تلك التصاویر التي تکمن في ذهن الشاعر؛ ومایرمي إلیه بقلمه حیث التجأ إلی هكذا تقنیات لكي یكون النص ذا وقع في ذهن المتلقّي؛ والاهتمام بذهن المتلقّي جعل الشاعر أن یبدع أسالیب غیر التي عرفناها في القصیدة القدیمة ومن جملة هذه الأسالیب التي تظهر من الناحیة الشكلیّة للأثر هو التشكیل البصري فـــ«الاهتمام بالتشكیل البصري یعود إلی محاولة سد الفراغ الذي أحدثه ضعف الصلة بین الكاتب والمتلقّي باندثار الوظیفة الإنشادیة التي كانت تبرز القیم الجماعیة والملامح التعبیریة، وقد یكون هذا الاهتمام من تاثیرات الدادائیة والسریالیة وغیرها من التیارات الشعریة والفنون التشكیلیة التي وجدت طریقاً إلی الشعر العربي الحدیث بهدف التمرد علی المألوف والرتیب» (صمادي، 2001م: 43).

 التجأ الشعراء إلی استخدام أرقام وأشكال هندسیّة وأعمدة وجداول وكأن القصیدة أصبحت سجّادة فارسیة ذات رسوم ونقوش هندسیّة، ومنهم من أطنب في استخدام هكذا أسالیب ومنهم من استفاد منها بصورة صحیحة وساعدت المتلقّي علی فهم النص ودركه؛ «علامات الترقیم تبدو كأنها قد لصقت في جسد القصیدة، إنّها تشبه لوحة معلّقة علی الجدار، فهي لیست جزءاً من هذا الجدار لكنّها مع ذلك غیّرت ملامحه وأضافت إلیه معاني جدیدة. أنماط الأسالیب البصریة – منها الترقیم، وتقسیم المقاطع، والبیاض والسواد، والأشكال الهندسیة و..- تلعب دور اللوحة علی الجدار في انتقال المفاهیم الموجودة في ضمیر الشاعر العاجز عن بیانها شفاهیاً» (العذاري، 2014م: 58). فیجب علی الشاعر أن يختار ألفاظاً صالحة، ودالّة، ومفیدة للنص الشعري.

التشكیل البصري استطاع أن یدخل في كیان الأدب الحدیث وأعطی للشاعر حریة مطلقة. «احتل التشكیل البصري مكانة بارزة في لغة الشعر الحدیث وخصوصاً الشعر الحر، الأمر الذي أعطی للشاعر الحریة المطلقة في تقنیة الكتابة الشعریة نتیجة تخلّصه من قیود الشعر القدیم (شعر الشطرین) ممّا أتاح له استثمار الطاقات الفنیّة المتاحة في لغة الكتابة الشعریة، الأمر الذي أسهم في تقدیمه النص وحمل رسالته وخدمة تجربته، وزادت أهمیة التشكیل البصري في لغة الشعر الحر وتقنیات الكتابة (الشكل الطباعي) التي تطورت عمّا كانت علیه في السابق، ولما یهیئه الشعر الحر من فرصة لاستغلال شكل النص ومدلولاته المختلفة»(البقمي،لاتا: 3).

الشاعر المعاصر العراقي صاحب الجنسیّة العمانیة عبدالرزاق الربيعي هو من ضمن الشعراء المعاصرین الذین أتقنوا واستخدموا هذه الأسالیب الحدیثة في نصوصهم ونتاجهم الشعري ممّا رشحه هذا الاستخدام المكثّف لیكون محوراً لهذه الدراسة. یحاول هذا البحث الكشف عن هذه الأسالیب البارزة – العلامات الترقیمیة، والتنقیط والصمت، والسواد والبیاض، والشكل المتموج، وتفتیت الكلمات، والظل- في أشعار عبدالرزاق الربیعي معتمدین علی المنهج الوصفي-التحلیلي.

إشكالیة البحث

عاش عبدالرزاق الربیعي متموّجاً بین أساطیر الماضي وارتباكات الحال؛ وقد تبع ظله بین الحاضر والغائب؛ بین أجواء تلتهب ضدّ المفكرین، دخل عوالم النص حتی هجر نفسه وبلاده؛ والإغتراب جعل من هذا الكائن البشري أحاسیس متموجّة كأشعاره، وحیاة ملیئة بالبیاض والسواد كمفرداته یرنو إلی صمته المدید؛ هكذا عرفنا “عبدالرزاق الربیعي”؛ لهذا، یسعی هذا المقال أن یعالج القضایا المرتبطة بنفسیّة الشاعر وتأثیرها علی أسلوب كتابته والدوافع التي جعلته یختار هذه الأشكال الهندسیة والأسالیب البصریة ومدی اهتمامه بالمتلقّي وبنصوصه لإیصالها بصورة صحیحة ومؤثّرة ولیظهر ویبیّن أحاسیسه ومایكابد من الآلام والخلجات النفسیّة. لم تكن جمیع هذه الأسالیب اعتباطیّة بل لها إیحاءات عمیقة تساهم في إثراء النص ویرید الشاعر منها تصویر الواقع المعاش في وطنه بصورة مرئیة تكون أكثر وقعاً في الأذهان.

أسئلة البحث

تغیّرت أنماط كتابة القصیدة منذ عصر الأندلسیین وتكاثفت الدراسات حول أسباب هذه التغييرات، أمّا في العصر الحدیث الشاعر یفكّر ویهتمّ بما تجتمع من أفكار بدماغ المتلقّي ویبحث عن تأثیرٍ لنصوصه من خلال الورق ولیس الصوت، إذن لاشك أنّ هذه الأسالیب البصریة استخدمت لتوصل المتلقّي إلی مفهوم ورمز معیّن من قبل الشاعر، وهذا مایبحث عنه البحث في نصوص “عبدالرزاق الربیعي”:

أولاً: کیف تجلّت الأسالیب البصریة في شعر “عبدالرزاق الربیعي”؟

ثانیاً: إلی أي حد تصل حدود إذابة اللغة في أنماط الأسالیب البصریة المستخدمة لدی الشاعر؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال استعراض القیم البصریة البارزة في أعمال الشاعر الشعریة.

خلفیّة البحث

احتل عبدالرزاق الربیعي مكانة مرموقة في شعر مرحلة الثمانینیات والشعر العراقي الحدیث، ومن المؤثّرین في التأریخ الشعري الحدیث في العراق لأنّهُ كوّن لنفسه هذه المكانة البارزة علی الأصعدة كافّة داخل العراق وخارجه، ولم یأخذ حقه کشاعر حداثي في میدان النقد الحدیث؛ ماعدی دراسات لاتتجاوز أصابع الید الواحدة؛ نشير إليها في ما يلي:

– مزامیر السومري: قراءات في المنجز الشعري والمسرحي للشاعر “عبدالرزاق الربیعي”، رشا فاضل (2010م)، دارشمس. في هذا الكتاب نری الكاتبة تقسّم الكتاب إلی أبواب ففي الباب الأوّل تأتي الكاتبة بقراءات في المنجز الشعري، واعتمدت الكاتبة في الفصل الثاني علی الدراسات والمقالات التي كتبت عن المنجز الشعري والمسرحي للربیعي، وفي القسم الثالث تحدّثت رشا عن شخصیة الربیعي وملامحه الانسانیة من خلال انعكاس صورته في مرایا الآخرین.

– عشبة جلجامش: جمالیات الإیقاع في شعر “عبدالرزاق الربیعي”، ناصر أبوعون (2013م)،  كنوز المعرفة- الأردن؛ فقسّم هذا الكتاب إلی ثلاث أبواب؛ الباب الأول: المرئي والمكتوب، ودراما الصورة الشعریة، وفي الباب الثاني: البنیة الإیقاعیة والأبعاد الجمالیة والتكوینیة، وفي الباب الثالث دراسة في دیوانه سیدوري، ومحاولة لإعادة إنتاج الأسطورة.

– بلاغة القصیدة الحدیثة – قراءات في شعریّة “عبدالرزاق الربیعي”، علي صلیبي المرسومي (2015م)، دار الحوار دمشق؛ وهو مجموعة من الدراسات حول عتبة التصدیر وفاعلیة التركیز والنصوص المتعالقة.

وإنـــّــنا في هذه الدراسة سنسلّط الضوء علی: العلامات الترقیمیة، والتنقیط والصمت، والسواد والبیاض والشكل المتموج مستشهدین بنماذج من شعر “عبدالرزاق الربیعي”، ومن ثمّ سنتطرق إلی نماذج أخری من هذه الأسالیب وهي تقنیت الكلمات والأشكال الهندسیة وأخیراً سنخوض في ما یسمی بالظلّ متخلصین إلی أهمّ ما وصلنا إلیه في إطار هذا البحث.

سیرة الشاعر

في عام 1961 وُلِد عبدالرزاق الربیعي في العاصمة العراقیة لیحمل لواء الشعر والمسرح العراقي في الغربة بعد هذا؛ وعندما كان في عمر الثالثه والثلاثین –أي عام 1994- غادر العراق، وكعادة العراقیین آنذاك خرج نحو الأردن هارباً من مأساة الحصار الأمیركي علی البلاد والدمار الحاصل من الحکومة وسياساتها في تلك الآونة. استطاع عبدالرزاق أن يکوّن لنفسه تجربة شعرية فريدة تستهوي الباحثين، فهو «یُعدّ الشاعر عبدالرزاق الربیعي واحداً من الشعراء في العراق والوطن العربي، إذ ظهر علی الساحة الشعریة العربیة في العقد الثمانیني من القرن المنصرم، عندما أصدر دیوانه الأول إلحاقاً بالموت السابق» (زینل، 2012م: 6)

ومنذ عام 1986 إلی یومنا هذا ینشر دواوينه والدراسات أيضاً في شتّی المجالات؛ و«یمتد التأریخ لعبدالرزاق الربیعي منذ أول دیوان صدر له “الحاقاً بالموت السابق” عام 1986 حتی “مدن تئن وذکریات تغرق” عام 2008 عن دار الانتشار العربي في بیروت وبین هذین الدیوانین تتوزّع نتاجات الربیعي الشعریة لتشمل خمسة عشر دیواناً منها: 1- الحاقَا بالموت السابق2- حداداً علی ماتبقی 3- قمیص مترع بالغیوم 4- أصابع فاطمه 5- قوس في دمي 6- موجز الأخطاء 7- شمال مدار السرطان و..» (فاضل، 2010 م: 5).

شعر عبدالرزاق الربیعي في صورته العامة هو شعر مندمج بالحیاة الیومیة بكل طبقاتها وظلالها ومستویاتها، ویكاد یكون شعره سیرة شعریة مكتنزة بالتفاصیل الحیاتیة العراقیة، فالمكان العراقي بتنوّعاته المعروفة عنصر أصیل من عناصر شعریته، له نكهة خاصة تظهر من خلال اللفظة والصورة والمشهد والنص عموماً، فهو مكان واقعي یتردّد في الكثیر من قصائده، وغالباً ماتكون بغداد محوراً لأشعاره؛ کما «یمثّل الشعر لـــــــــــعبدالرزاق الربیعي الحبل السرّي الذي یربطه بالوطن والوجود حیث توازي ولادة القصیدة لدیه ولادة حیاة جدیدة والانبعاث من رماد العدم، ربما نجد ذلك سبباً في غزارة نتاجه الشعري وتشبثه بالکتابة کطفل یصر علی التعلق بعباءة أمه» (المصدر نفسه:6).

الأسالیب البصریة

لكلِ شاعرٍ طریقة في الأداء ومعالجة نصوصه، ومنهم من امتاز بطریقة الأداء حتّی تبعتهُ الأجیال، ومنهم في العصر الحدیث یبحث عن طریقة يعبّر عنها علی مساحات الورق ولیس في الصوت؛ لهذا سُمّیَت هذه الأساليب بالبصریة و«هذه العناصر لایمکن الوصول إلیها إلا بالبصر لفهم النص وفق التشکیل الخطي الذي ینتقیه الشاعر لنصه» (علي ‌ناصر، 2017: 1). ثمّ اهتمّ الشعراء بالبحث عن ابداعات، حتّی ظهور الأسالیب البصریة؛ بعد هذا أبدعت شعراء الحداثة أسالیب جدیدة غیر معهودة بغیة التعبیر عن رؤاهم وأفكارهم؛ فقد كسروا رتابة المنهج القدیم الذي یهتمّ بالصور السمعیّة المتاحة في إلقاء قصائد المناسبات، وركزوا علی صور بصریّة تلامس قلب المتلقي بصمت وخفاء في ظل الظروف السیاسیّة الخانقة التي فُرضت علی الشعراء؛ وبما أنّ التكرار والعزف علی وتر واحد لم یكن لیشبع رغبات قرّاء الشعر المعاصر؛ لذا بحث الشعراء دائماً عمّا یمكن أن یطبع أعمالهم بطابع التمییز. یقول عبدالقادر فیدوح في هذا الصدد:«لقد بدأ الشعر الحدیث یبحث عن سبل أخری تعزّز من دور الكلمة، والرغبة في التخلّص من رتابة كلّ ما هو عتیق، وهذا ما جعل الشعر یقتحم طرائق جدیدة، تنسجم مع الذوق المستجد، لیعطي مفهوماً مضافاً إلی شكل القصیدة، بهندسة معماریّة یخصّها الشاعر بوضع تصامیم شكلیّة، متوازیة مع مفهوم الكلمات؛ لتشیید بناء قصیدته، یضاف إلی ما یعرف بالمضاف إلیه في دلالة الصورة» (فیدوح،2012: 537)

تأثیر مدرستي السریالیة والدادیة في الأدب الحدیث قد أسهمتا في ابداع هذه الظاهرة الحداثویة؛ «لأنهما یمیلان إلی استغلال طاقة التشكیل البصري للتعبیر عن مذهبیهما، وخصوصاً في لعبة السواد والبیاض والنقط علی الورق، وذلك فإن اللغة الشعریة ببعدیها اللفظي والرمزي لم تعد وحدها محور الاهتمام وإنما باتت أشكالها وتجلیاتها المختلفة، وكیفیة عرضها وعلاقتها بمعمار الصفحة محط اهتمام الباحثین» (البقمي، لاتا: 4).

وقد اهتمّ الشعراء في استخدام الأسالیب البصریة وبلغ تأثیر هذه الأسالیب في القصیدة المعاصرة مبلغاً عظیماً حیث نشهد «القصیدة البصریة تحاول أن تستعیض من خلال التعبیر بالصورة عن مبدأ التعبیر بالصورة اللفظیة، لذا لم یعد المعروض نصاً فقط بل هو إلی جانب النص فضاء صوري شکلي لایخلو من دلالة (صور، رسم، ألوان، صوت) تحکمها مقصدیة منتج الخطاب» (الصفراني، 2008م: 5).

الشكل المتموج

نوعیّة غرس المفردات في بطن الورق أصبح مهمّاً کأهمیّة الكتابة نفسها لدی الأدیب؛ وقد حاول الشعراء في إبداع طریقة للکتابة ونوع ترتیبه وتکاثر هذا الأمر بحجّة المُتلقّي وفهمه وتأثیرة من النصوص؛ «یهتم الأدیب المعاصر بطریقة الكتابة ونوع ترتیبه للأبیات بقدر ما یهتم بالكتابة نفسها، فنشهد من خلال ذلك صراعاً جاریاً بین الكتابة والفضاء المحیط بها وهذا إن دلّ علی شيء فهو یدل علی الصراع المحتدم في نفسیّة الأدیب والعالم بشكل عام» (بلاوي وآخرون، 2015 م: 11؛ نقلا عن: محمدي، 1392هـ.ش:45.)

    ولا نستطیع أن نقول أنّ هذه الأشكال والتموجات هي كنمط أو إبداع لایعكس شیئاً بل «یُعدّ تشكیل الفراغ المكاني جزءاً لایتجزأ من إیقاع القصیدة التكویني إذ هو مستوی إیقاعي یفصح عن حركة الذات الداخلیة، ویتّسم بالصراع بین ماتمثّله الكتابة “المساحة السوداء المحبرة” ومایمثّله الفراغ “مساحة البیاض” وهذا الصراع لایمكن أن یكون إلا انعكاساً مباشراً أو غیر مباشر للصراع الداخلي الذي یعانیه الشاعر، فیقیم حواراً بین الكتابة والبیاض، مستنقطاً الفراغ ومساحته الصامته بحیث تعبّر عن نفسیّة الشاعر المندفعة أو الهادئة علی المستوی البصري، ویترك المكان النصي ببیاضه الصمت متكلماً ویحیل الفراغ إلی كتابة أخری أساسها المحو الذي یكثّف إیقاع كلّ من المكتوب المثبت والمكتوب الممحي» (صمادي، 2001م: 55). في النص الشعري المسمّی «الساعة الثامنة» نقرأ:

أوراق مــــــــــــنثورة
 

 

 

 

 

وقصیدة رجل
 

 

 

 

 

یلقي شعراً للأشجار       
 

 

 

 

 

 

 

 

 

صرنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

 

 

 

 

نسمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع

من بعدٍ
 

 

 

 

 

 

 

 

        

 

 

وقع خطاه

(الربیعي، 2019م: 2/ 528)

 یعتمد الربیعي علی تمویج المفردات وتزحلقها في الأشطر لیبیّن أن خطاه قد ابتعد في مشوارٍ بعید والأوراق مبعثرة بعیدة عن بعضها، وكأنه رسم لوحة للأوراق المبعثرة لیظهر تشویشه الدائمي. ثم في قصیدة «حمامة» یقول:

یضحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكون
 

 

 

 

 

 

 

ونشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقی

ویفترقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــون       
 

 

 

 

 

 

 

ونبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقی

(المصدر نفسه: 521)

فبین الضحك والبقاء مسافة بعیدة علی الورق لیبیّن للمتلقّي أنّ الضحك قد ولّی بعد ما افترقوا أحبته، وهذه أحوال أبناء العراق في الهجرة بعد الحصار والحروب. ثمّ في قصیدة «ارتباك» حیث نری الإرتباك في النص بصورة ملموسة یتوهم الشاعر اتصالاً هاتفیاً؛ یبحثُ عن مصدر الصوت لكي یخلق للقارئ زمكنة مختلفة بین كیانه الترابي وذاته المتوحش في الغربة، یبحث عن صدی لا صدی له؛ یخافه في الغربة ویتعمّد بإهداء هذه القصیدة إلی الشاعر عدنان الصائغ لأنّ كلیهما مغتربان؛ یقول في هذه القصیدة:

رنّ الهاتف

                  مَن داهمني في هذا اللیل؟

امرأة؟/ خبّأت شظایا القلبِ / بصندوقٍ

….

لستُ سوی رجلٍ مخمور / یبكي في منتصفِ اللیلِ / یشاكسهُ جرسُ الهاتفِ / لستُ سوی………………… / من قال بأنّي ربٌ / یقصدهُ الفقراء/ ویرهبهُ الجن / (الهاتف مازال یرن) / عصفورٌ مأسورٌ؟

           العالمُ سجنٌ

                   أن تفتحَ سجناً

                              صاحَ بأقصی غربته سجنُ

                (الهاتف مازال یرنُّ) (المصدر نفسه: 521)

فتموّجت هذه القصیدة ومُلئت بالتنقیط والصمت والشاعر يبحث فيها عن سكون له ولصدیقه الشاعر المغترب؛ فقام إلی تنسیق الأشطر بشکل هندسي موّاج مستهدفاً إنتاج المعنی علی نحو موازٍ لهذا التنسیق؛ فالنسق الدلالي هنا من الضیق (السجن) إلی (رنّ الهاتف) حیث في الغربة باب فرج للشاعر. وفي قصیدة «قدّاس لنجمة سادسة» نری القصیدة متموجة من بدایة كتابتها:

لاأحبّك

                لكنك عندما تركتِ الأمكنة

                                        التي تُحاذیني فارغةً

                                                   شعرتُ بأنّي بیدٍ واحدةٍ

                                                                        ودم مرٍّ

                                                                                   وقلبٍ

یتكسّر كالزجاج

                  وأنّ وجهي في المرآةِ

                                       أصبح غیر صالحٍ

                                                            للإستعمال

                                                          اللهمّ إلّا لأخذ الصور الجانبیة (المصدر نفسه: 514)

إنّ كتابة الجملة الشعریة بهذا الشكل، وتوزیع الأسطر الشعریة علی هذا النحو كان في حسبان الشاعر لتكون الصورة مرئیة للمتلقّي حیث یعیش الشاعر بین الوصل والفصل. وفي قصیدة الأطفال یبحث عن بهجة إلی أطفال بلاده وكأنه یرجّع ذاته إلی طفولته قائلاً:

طفلانِ صاخبانِ

                    تفّاحتا ضجیج

                                  نقطتا حلیبٍ دبقٍ (المصدر نفسه: 503)

وفي قصیدة «موسم الحب» یأتي بالمفردات الموّاجة والتنقیط المتعمّد الممتد علی طول القصیدة:

بادئ الأمرِ اكتویت / آخر الأمرِ اكتویت

وتشظّیت….

تمزّقتُ

              

بكیتُ

 

هكذا

 

یحترقُ الدمع

 

وتغدو………

 

جثثُ الأزهار

 

أزهاراً

لینمو…..

فوق أوراقيَ بیت

التفاصیل:

التقینا…….

 

قلتُ……

 

قالت…..

 

قلتُ…….

 

قالت……

 

وافترقنا…..

من قبل أن…….

صفحة أشواقي طویت (المصدر نفسه: 489)

 

موسم الحب هو موسم الشظایا والتدهور لكیان الشاعر علی الورق وكأنه یتحدّث إلی وطنه حیث كان شاهداً علی إنهیار البلاد وشاهداً علی ماحدث ویحدث، وذلك ما أكّدته معالجاته الشعریة السابقة المنهمكة بوطنه الذي یلملم شظایاه ویتتبع انكساراته. وحیث یرید أن ینقل الألم إلی المتلقّي فیقطّع ویفتّت ویموّج الأشطر التي ملیئة بالصمت والتنقیط؛ ففي قصیدة “موسم الهجرة إلی ……………” یقول:

 

یومیاً….

أجلسُ في اللیل

 

أهیئ زادي

وعصاي لأرحلَ

یومیاً………. (المصدر نفسه: 487)

جاء بهذا النص بشکل متموّج وتعمّد في استخدام مفردة “يوميا” في بداية المقبوس وخاتمته وفي خط واحد. وبعد مفردة «یومیاً…………» تأتي النقاط لتظهر صمت الشاعر وهجرانه من بلدٍ إلی بلدٍ آخر وكأنه لم یرضَ بهذا الهجران، وعصا الترحال هي العصا التي بید الرحّالة وشبّه نفسه بالمتصوفین الذین یعیشون الغربة.

السواد والبیاض

ظهرت تعبیرات جدیدة في النص الشعري المعاصر وفي طریقة کتابة النص والسواد والبیاض لعبة تناوبت بین الامتلاء والخواء و«لقد أصبحت لعبة السواد والبیاض والتناوب بین الامتلاء والخواء، وبین منطوق الکلام وما کان کلاماً مخفیاً في الصدور تقنیة ًجدیدة في کتابة القصیدة وفي إخراج نصها متشکلاً في هیئة لم یألفها قرّاء الشعر» (علی ناصر، 2017م: 2). ویمکن أن نلاحظ حدة الصدام بین الأیدي والأرجل في النص -علی المستوی الکتابي- في قصیدة «أیدي»؛ وهذا یدلّ علی التركیز إلی صعود الأرجل والأیدي التي لاتمثّل شیئاً؛ سوی الهزیمة فتحوّل الأرجل إلی عکازات:

الأیدي / ترتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفع…………….

ترتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفع

الأرجلُ / تتحوّل إلی عكازات (الربیعي، 2019م: 2/ 76).

إنّ توظیف السواد في هذه الدفقة یرتبط بدالین محوریین: «الأیدي والأرجل» وقد جاء السواد الطباعي إلی مرحلة صراخ من کسر الأیدي وتحطیمها؛ ویترتّب السواد في الزمکنة الدالّة علی حنین قدیم، زمان یرجع إلی الوراء، زمن الأقاصیص وهذا الفراغ بین الأجیال والحنین إلی الماضي یأتي بالسواد والبیاض حیث یقول:

شبّ في الطلق الأخیر فتی…

املاً كلامي بالمناسب

من أقاصیص الجدود

فإن عجزت

فهاته…..

أم أنهم جلسوا علی الأسفلت (الربیعي، 2010م: 12)

فكل ماتحدّث عن الفتی في هذه القصیدة قد جعل المفردات أكثر سواداً لیكون القارئ علی معرفة بأهمیة هذا الفتی. ثمّ في هذا النص یظهر البُکاء بمعیّة الطریق لیتغلّب السواد علی البیاض والُحزن والترح علی الأمل والفرح:

وتطلعوا في رسمها

وتطلــــــــ…..

املأ نحیبي بالمناسب

من أحادیث الطریق

فان عبیت

فلا تصدق ماسأتلوا من…

بکوا… (المصدر نفسه: 12)

وقد جعل القارئ یعرف تعبه وأحزانه من خلال السواد ومتاعب الطرق. والشاعر عمد في هذا المقبوس إلی تقنية البتر / القطع فبقی الکلام ناقصاً (وتطلـ…..) منفتحاً علی تأويلات عدّة.

العلامات الترقیمیة

كثیراً ما اعتمد الشاعر الحداثي علی اختیار علامات الترقيم في إنجازه الشعري، حیث أصبحت هذه الظاهرة أداة للفصل والوصل.  وقد اتفقت الأدباء والنقّاد علی هذه الرموز لأهدافٍ معینّة. «علامات الترقیم هي علامات ورموز متّفق علیها تُوضَع في النص المکتوب بهدف تنظیمه وتیسیر قراءته وفهمه. ویطلق الترقیم علی العلامات والإشارات والنقوش التي توضَع في الکتابة وفي تطریز المنسوجات» (بلاوي وآخرون، 2015م: 32). ویری الناقد أحمد زكي أنّ هكذا رموز توضع لتعیین مواقع الفصل والوقف:«وضع رموز مخصوصة، في أثناء الكتابة، لتعیین مواقع الفصل والوقف والإبتداء وأنواع النبرات الصوتیة والأغراض الكلامیّة، في أثناء القراءة» (زكي، 2012م: 12). فهذا الإبداع الحداثي جاء بعد ما أحسّ الشاعر أنّ المتلقّي في أشدّ الحاجة إلی نبرات الشاعر، حيث أنّ «السامع والقارئ یكونان علی الدوام في أشد الحاجة إلی نبرات خاصة في الصوت أو رموز مرقومة في الكتابة یحصل بها تسهیل الفهم والإدراك عند القراءة أو السماع» (السابق :8). هكذا تقنیات تظهر كثیراً من العُقَد المكبوته الداخلیة التي عجزت عنها اللغة فالتجاء إلی رسم رسوم هندسیة وقیل أنّ هذه العلامات كأنها الكولاج يقوم الشاعر باستخدام هذه العلامات في الشعر «لتثبت إلی القارئ المكبوتات الداخلیة التي تعجز عنها اللغة ذاتها بسوادها الخطي أن تكشف عنها» (شرتح، 2012م: 213). وفي ما يلي نعالج أهمّ هذه العلامات منها الأرقام وعلامات السؤال والتعجب.

الأرقام: من أبرز الرموز المستخدمة في الشعر الحديث، استخدام الشعراء للأرقام. «إنّ المغامرات الشعریة مع ظواهر الطباعة دفعها إلی توظیف الأرقام في متن النص الشعري، حیث أصبحت الأرقام أداة إنتاجیة تؤدّي مهمتین هما (الفصل والوصل) علی صعید واحد» (البقمي، لاتا: 9). وقد أكثر عبدالرزاق الربیعي من ترقیم فقراته الشعریة لإعطائها حق الاستقلال الإنتاجي واتخاذ التتابع الرقمي أداة ربط بین الفقرات سیّما قصیدة «حبٌّ تحت الإعصار» التي تشكّلت من ثمانیة فقرات ملیئة بالتنقیط، والصمت والترقیم والشكل المتموج والسواد والبیاض. یقول في الفقرة الأولی:

1- انطفاء

علی الطاولة / شمعةٌ تضيءُ / اتجاه الحب

……………

تحت الطاولة / عشراتُ الأرجل / تهرول / باتجاه الرغبة

…………………

بمحاذاة الطاولة / عشراتُ الأیدي / تتلامس / باتّجاه القلب

……………..

هبّ الإعصارُ

هدأت الأرجل (الربیعي، 2019م: 1/ 362).

بدأ الشاعر هذا المقبوس برقم (1)، وکأنّه يريد يرشد القارئ من خلال تقسيم النص وتأطيره. ویأتي الربیعي بقصیدة “كواكب المجموعة الشخصیّة” علی سبع فقرات منها:

1-كوكب البنت التي أكلت دمیتها وقت المغربیة

2- كوكبُ الولد الذي خطب في قاع البحرِ جنّیة

3- كوكب البرتقالة الذي تحطّم فیه الجوّ (السابق: 506).

وفي قصیدة «قلوبنا وصلت……….. شكراً لساعي البرید» يقوم الشاعر بتقسيم الفقرات وترقيمها بشکل متسلسل:

نموذج-1-

 إیه یا شواطئ الروح، هل مازال هناك متّسع لحلم آخر (الربیعي، 2019م: 2/181)

ثمّ في النموذج الثاني والثالث یقول:

«نموذج – 2 –

خالي .. إننا مشتاقون لك كثیراً  / الله یخلیك ارجع ارجع ارجع / فائزة في 8/ 11 / 1994)

نموذج – 3 –

أخبروا أهلي أن أبا صلاح سافر إلی (لیبیا) من الأردن / عن طریق (السودان) یوم الأحد 20/ 11 ویسلّم علیكم (المصدر نفسه: 181).

حاول الشاعر أن یجعل لنصه توقیتاً وولادة معیّنة لیظهر للقارئ الحنین الذي ینتظره في الوطن وقلوب الأحبّة الملتهبة من خلال الترقیم والتوقیع.  

علامات السؤال: یبحث الشاعر الحداثي عن أسلوب خاص لیجعل المتلقّي یتفاعل مع النص في حین التعجب والسؤال من خلال الترقیم والأشکال. الشاعر أحياناً لایری غموضاً في التساؤلات بل یسأل للإنکار فـ«الإنکار إذا وقع في الاثبات یجعله نفیاً، کقوله تعالی (أفي الله شك) أي لاشك فیه، وإذا وقع في النفي یجعله اثباتاً» (الهاشمي، 1379ه.ش: 78)، وفي مثل هذا السياق یقول الربیعي:

ذکراك المُعلّقة / في دولابك / وحائط أحزاني/ من ینزلها من علیائها / سوی یدك التي / أورقت / في الغیاب؟ (الربیعي، 2019م: 1/ 90).

ثمّ یسأل للنفي من حبیبته التي لایصدق سواها:

ومتاهات الألم: / أحبكَ/ فهل أصدّقها / وأغضبُ «ریماك»؟ أم أصدّق «ریماك» /  وأجرحُ قلبها المتورم؟ / أمّ أصدّقُ الموت / وأغضِبُ الحبَّ؟ (المصدر نفسه: 95).

     ففي هذا المقبوس استخدم علامات الاستفهام لثلاث مرّات متتالية، وهذا الاستفهام يدلّ علی نفسيته المضطربة. وفي هذا المقبوس استخدم النقطتين الرأسيتين (:) للتقسيم فمن خلال هذه العلامة أن يأتي بأرکان متاهات الألم. هذا وقد استخدم الشاعر أيضاً اسم العلم في علامتي التنصيص.

علامات التعجّب: یحاول الربیعي من خلال علامة التعجّب / الدهشة «!» یتسائل ویتعجّب من الحیاة التي أصبحت لاتطاق:

«لانعرف أینَ سترسو/ بعد طوافِ العمرِ مراکبنا!!» (المصدر نفسه: 102).

ثمّ یتعجّب من حبیبته التي مازالت لاتصدّق تنهداته قائلاً:

«هذا ماقالته العدسات/ والربُّ/ والأشجارُ/ ومع ذلك/ للآن لم یصدِّق الخبرَ أحد!!!» (المصدر نفسه:200).

وقد استخدم الشاعر هذه العلامة ثلاث مرّات متتالية ليدلّ علی شدّة استغرابه ودهشته، ولکي يجلب انتباه المتلقي وتفاعله في شدّة هذا الاستغراب المقصود.

التنقیط والصمت

یضع الشاعر في بعض الأحیان نقط وفراغ في نصه لکي یجعل القارئ شریکاً بوحي خیاله في النص وهذه تقنیّة التنقیط أسلوب حدیث عند شعراء الحداثة فهي مجموعة من النقاط السود یستخدمها الشاعر بجوار الكلمات سواء قبلها أو بعدها أو بین كلمه وأخری داخل سطر واحد. «التنقیط كنایة بصریة عن دال (كلمة أو جملة) مُغیّب بنحو مقصود من قبل الشاعر تجنباً للحساسیة الدلالیة التي یمكن أن یثیرها ذلك الدال لو ظهر علنیاً في القصیدة التي حُذِفَ منها ووضعت في مكانه مجموعة من النقاط كعلامة علی الحذف أو بمعنی آخر كعلامة علی الصمت» (عبدالرحيم، 2000م: 9). وهذا هو عبدالرزاق الربیعي یری لا حلّ لأمره فیكتفي بالصمت ویحدّقُ إلی البعید:

هكذا جری الأمرُ / بدون أجراسٍ وأناشید سود / والأمرّ… /  أنّها أسلمت لأصابع الأبدِ / روحَها الأخيرة (الربیعي، 2019م: 1/ 24).

فبعد مفردة «أمرّ…» اختار الصمت والسكوت لما في نفسه من الیأس والحزن والحیرة؛ فلا یری شرحاً لمرارة الأیّام سوی الصمت والسكون. وفي نفس القصیدة المسماة بـ «غیاب ألیف» یری الفراق هو ما تبقی له من كل ما یمتلكه فیقول:

«لم نضعها / في هواء الحدیقة / بل بكیناها جمیعاً / بكلماتٍ / خمسٍ… أو ستٍ.. / ولم یكن لدینا غیرُها / ولو كان لدینا أكثرُ / لكتبنا / علی الحائطِ/ اسمها / ورسمنا بیتاً صغیراً / دافئاً / من عیدان الشمس/ تهنأُ به/ لمّا تفیقُ / وحینَ تتعبُ حنجرتها / تلعب بخیوط الزمن / مثلما / كانت تفعلُ / قبل أن تعطي / ظهرها الجدارَ / بهدوء ملاك ألیف/ قطّتنا التي ماتت / ولم یكن لدینا غیرها / …….. / …….. / ( المصدر نفسه: 24و25).

فعندما تعجز الکلمات عن التعبير يلجأ الشاعر لاستخدام الفراغ حتی يشارکه المتلقي ويتفاعل معه بل يبحث عن المحذوف. فهذا الفراغ توظیف متعمّد یرتبط بدالین محوریین: هو وجود الشيء – ومن ثم وجوده في العدم وقد جاء الفراغ الطباعي لیفصل بینهما بصمت محسوب ایقاعیاً وقد استطاع الربیعي أن یجعل لكل دال نوعاً من الفاعلیة المستقلة داخلیاً وقد ارتبطت هذه الألفاظ صوتیاً ودلالیاً. وفي قصیدة «وضوء» یری البیاض المطلق بین یدهِ الكریمة وهو السعید ولكن في النهایة یری ما مرّت به القصیدة هو مجرد خیال من العدم والتمنّي وتبقی من العدم  هي مفردة «لو»؛ فیقول:

ماذا یحدثُ لو توضّأتُ بالنورِ/ وحملتُ مسبحةَ الغیمِ ومشیت / علی أطراف روحي حتی أصلَ / هناك / وسطَ البیاضِ المطلق/ لأقف بین یدهِ الكریمة / بكامل سعادتي / وبهائي/ ولسدّ فراغ التاریخ / أقطف زهرةً / من شجرة الخلدِ / وأحتسي كأسَ نبیذٍ/ یكفي لملء سجلّي بالنشوةِ / وعلی وقع موسیقي الكونِ / وغناء الطیورِ/ أراقص الملائكة الصالحین/ لو حَدَثَ هذا……….. (المصدر نفسه: 38).

ویأتي السكوت بعد الهاویة لیظهر مدی العُمق الذي یسقط به شاعرنا في هذه الحیاة البخسة:

ذات جمعةٍ تبحثُ عن معنی/ في سوق العطالةِ / هل سترمیني / أبابیلُ جهنم / بحجارةٍ من موقِدها المتّقدِ / فأخرُّ صریعاً / هاویاً…. (المصدر نفسه: 39).

ومن أهم قصائده التي تهتمّ بهذه التقنیة هي قصیدة «صباح الحب» التي تحتوي علی طیف وسیع من الصمت والتنقیط وكأنه لم یرض بما تعبّر به الکلمات، فیقول:

لرنین الهاتف / في التاسعة صباحاً / زقزقة عصافیر زرقٍ / تنقرُ شبّاك القلبِ/ وهمسُ جناحِ فراشة / لرنین الهاتف…..

صوتُ رنین الروحِ / ولحنُ بشاشة / برنین الهاتفِ / في التاسعة صباحاً / وقعٌ……. / لا أسمعه / في التاسعة صباحاً

……………..

…………….

…………… (المصدر نفسه: 2/ 524)

فقد شحن الشاعر هذا النص بمؤثّرات صوتية فاعلية من خلال استخدامه لمفردات صوتية (رنين الهاتف 3 مرّات / زقزقة / تنقر / صوت رنين الروح / لحن /  وقع )، ثم بعد هذا التمهيد الصوتي يأتي بصمت من خلال تکثيفه للنقاط ليعطي للمتلقي فرصة للاستراحة بعد تزاحم الأصوات التي ذکرها؛ ثمّ تهطل سحابة الأسئلة علی المُتلقّي وكأن الشاعر یرید منه أن يکمل الفراغات:

مطرٌ في الدربِ / سكونٌ لفّ الجدرانَ / الطرقاتِ / العرباتِ / الناسَ / تأخّرتِ التاسعةُ صباحاً / أم أنَّ الزهرةَ / فرّت من جدولها…. / أم……؟

…………………………………….

…………………………….

………………… (المصدر نفسه : 2/ 525)

فيترك للقارئ مجالاً لتکميل السؤال ثم الاجابة عليه. ولاشك أنّ هذا الصمت المتجسّد بالبیاض والتنقیط في قصیدة واحدة يحتوي علی معانٍ كثیرة وبلاغة في سیاقها المتكامل، وبمجرد رؤیة هذه القصیدة علی الورق یصطدم بها المتلقّي. الربیعي یمارس جرأة وشجاعة في الکتابة ویخلق نصوصاً بیضاء يکتبها / يکمّلها المتلقّي کيفما ماشاء.  

استطاعت القصیدة في هذا البناء الشكلي وكثرة التصادمات الطباعیة والتغیّرات المكانیة والصمت والتنقیط أن تؤثّر ثأثیرها البالغ في حركة المعنی في كل فقرة ونقل الثقل الإنتاجي من منطقة إلی أخری ومن دال إلی آخر، وهذا التأثیر لاینفصل عن الناتج الإجمالي للدفقة الشعریة. الصمت المقصود جعل المتلقّي یدوّن مدونة معاني وهمیّة متأثّرة من تشویش الشاعر وعبقریته. في النص التالي من قصیدة موسومة بـ «یقول لصاحبه» كتبها الربيعي لصديقه الشاعر عدنان الصائغ نقرأ:

اللیلُ……………

و…………………

قد یحملني خطأ في الرقمِ إلی / هیكل ظلمتها

…… وحدي……….

في اللیلِ الأخرسِ / أحضنُ جثمانَ الصوتِ / وأعصر ُ أسلاك الهاتف

…………………….

……………………

هل یقطرُ إلّا أخطاء الأرقام؟ (المصدر نفسه: 2/ 442)

نری الحنین إلی الصدیق، والغربة التي تحیطه من كل صوب؛ فیری نفسه وحیداً بین النُقَط والفراغ، لایری إلّا التساؤلات والمضایقات التي جعلت منهُ شخصیة منطویة.

یُلاحظ أنّ الفقرات التي تکاثرت في طیّاتها أسلوب التنقیط کثیرة، واعتمد الربیعي علی هذا الاسلوب لکي یشاطر القارئ في فهم النصوص وأدّت أسالیبه مهمّتها الإنتاجیة بشکلٍ سلیم.

تفتیت الكلمات

عندما یتألّم الشاعر ویرید أن یظهر هذا الألم في النص في بطن القرطاس، یحاول أن یمدّ الكلمة، أو یقطّعها إرباً إرباً؛ وكثیراً ما حاول عبدالرزاق الربیعي أن یفتت الكلمات ویقطعها؛ وهذه الظاهرة تدلّ علی بُعدٍ نفسي لدی الشاعر. المقصود من التفتیت «هو تقطیع كلمة أو مجموعة كلمات إلی أجزاء متعددة داخل القصیدة، فهو عدول بصري في طریقة الرسم الكتابي للمفردات الشعریة، تعبیراً عن البُعد النفسي لدلالة المفردة المقطّعة في القصیدة؛ وتُعدّ هذه الظاهرة مظهراً تعبیریاً یكشف عن فعل داخلي حي یتّجه نحو التعبیر عن حركة تتّصف ببعض الانسجام والتشكیل في اتجاه حركي واحد علی صعید الدلالة والأسلوب» (محسني وکياني، 2013م:91). وقد استخدم عبدالرزاق الربیعي هذا الأسلوب في نتاجه الشعري:

لم آتِ لهذا وذاك …. /  بل لأتكلمَ / بعیداً عن ذلك / وقریباً  / من اللقلقِ الذي علّا وطار / علّا وطـــــاااار (الربیعي، 2019م: 1/ 34).

فتفتيت کلمة (طار) في السطر الأخير يدلّ علی مدی تحليق هذا اللقلق، فأراد أن يضاعف دلالات هذا الفعل من خلال تفتيته. وفي قصیدة “جولة في عیون سنیورینا” یقول:

أهوي..

 

 

        فأری جدرانَ المرأةِ

 

 

تُحاصرني

 

 

وأحاصرُ من كلّ جهات الأرض

 

 

فأصرخُ ..

 

 

– سن ..

 

 

                       یو ..

 

 

رینا

«سنيورينا» کانت نائمةً

«سنيورينا» کانت تحلم بالأقمار

 

 

(المصدر نفسه: 2/ 467)

هذا المقبوس فضلاً عن الحالة المتموجة التي اعتمد عليها الشاعر في توزيع الأسطر، قام بتفتيت اسم «سنيورينا» لأنّ الأسم جاء بعد فعل «أصرخ» وأراد أن يبيّن مدی صوت هذه الصرخة. وفي هذا الصوت كأنه یبحث عن ذاته الضائعة المُشرفة علی الموت، یبحث وینادي بمن یهواه، وهذا هو الألم الذي اعتصره وجعل منه دُمیة ضائعة وتائهة في البلاد. وفي قصیدة «محنة صقيلة» یقول:

 “لا منزل لك في أرض لا أم لك فيها”

س

م

ا

ء

ع

ي

س

ى

(الربیعي، 2006م: 24)

فتفتيت هذين الکلمتين (سماء عيسی) بشکل عمودي تدل علی الامتداد من السماء إلی الأرض. من خلال هذا التفتیت أراد أن یعبّر عن الألم الذي حلّ بنفسه كما حلّ بنفسیّة النبي عیسی علیه وعلی رسولنا أفضل الصلاة والسلام؛ فیری الشاعر نفسه یحمل عبء ذنوب أبناء جلدته وحكامها، هارباً من بلدٍ إلی بلد. وفي قصیدة “تقاسیم علی الرصاص الحيّ” التي كتبها الربيعي بالإشتراك مع صدیقه الشاعر عدنان الصائغ، تظهر تقنیة التفتیت لفعل الإغاثة:

– أغیثونا …

أغــــــ …….

ثو … نا

أغـــ …. یـــــــــــــــــــــــــــــــ … ثـ … و .. نا …

……………

تمرُّ الطائرات – الخیل (الربیعي، 2019م: 2/ 86).

فبما أن الاغاثة دائماً تأتي مع صوت وطلب النجدة فالشاعر أيضاً قام بتفتيت هذا الفعل ليصل صداه إلی السامع ويبادر بالاغاثة. ويبدو أنّه قام بتفتيت هذا الفعل بشکل أفقي ليتناسب مع حرکة الطائرات والخيل؛ ثمّ یأتي بأسلوب التمویج والتفتیت معاً في نفس القصيدة:

نركضُ في الشوارعِ

تركضُ الطلقاتُ …

تر …

      أغــــ …

                یــــــــ …

                           ثو …

                                      نا …

(المصدر نفسه: 87).

فهذا التموّج في تفتيت الفعل يتناسب مع الرکض في الشارع وحرکة الطلقات العشوائية. وکما شاهدنا من خلال هذه النماذج يُعتبَر التفتیت من أهمّ أنواع الأسالیب البصریة و«یری الدكتور عزّالدین اسماعیل أنّ هذه الظاهرة بدأت علی استحیاء في السبعینیات واستمرت بعد ذلك، بالتركیز علی إبراز صوت الكلمة المفردة موزعاً علی أصوات حروفها وذلك عن طریق المعاینة البصریة لشكل كتابة هذه الحروف» (ناصر، 2017 م: 9).

الخاتمة

عبدالرزاق الربیعي یُعَد من روّاد الشعراء الذین استخدموا الأسلوب البصري في نتاجاتهم الشعرية للتعبیر عن أفكارهم ورؤاهم وتطلعاتهم المكبوتة، فقد وجد في هذا الأسلوب الفني طاقات دلالية تعجز عنها اللغة، فقد رکّز علی هذه الأسالیب الحداثویة التي تجعل النص مفتوحاً لكي يفسّرها المتلقّي حسب ما يدور في خلده.  

    عبدالرزاق الربیعي من خلال التشكیل البصري استطاع أن یجسّد لنا الأحداث الدامیّة ومعاناة وطنه العراق؛ فقد وجدنا اضطراباً نفسيّاً في نصوصه الدالّة علی معاناته في الغربة، وفي تأملاته التي ترکّز علی معاناة أبناء جلدته الذین یعیشون في ظل الأوضاع السياسية المتأزّمة. فهنا استولت علی نفسیته العُقَد المعقّدة من الیأس والحرمان، وهو یری هذه أمور تعود إلی اتجاهات سیاسیة خبیثة قد أدّت إلی تأخّر وطنه.  

    غربة الشاعر والإبتعاد عن وطنه، زادت أوجاعه وتوتراته، فظهرت هذه التوتّرات في نصوصه من خلال توظیفه لأنماط حداثویة سیّما التنقیط والصمت، والأشكال المتموجّة حیث تدلّ هذه الأنماط علی باطنه المضطرب، وقد كشفت للمتلقّي عن خلجات روحه المضطربة.

وظّف عبدالرزاق الربیعي علامات الترقیم في أشعاره كي ینبّه القارئ ویدعوه لیتأمّل في نصوصه، وإلی اللوحة التي يرسمها من خلال المفردات أمامه. فالشاعر تعمّد عدم المکاشفة في نصوصه حتی يلفت انتباه الشاعر ويستوقفه. وقد اتّخذ اللغة الصامتة من خلال تکثيفه للنقاط وبتر بعض المفردات ففي ظل المشاهد المرعبة والمؤلمة والأحداث الجسيمة تفقد اللغة دلالاتها.

 جاءت الأسالیب البصریة في شعر عبدالرزاق الربیعي متعمّدة فمن خلال التموّج والتفتيت أراد أن يکشف عن اضطراب نفسيته، ومن خلال التنقيط أراد أن يعتمد الصمت ويلفت انتباه الملتلقي، أمّا استخدامه لعلامات الترقيم کالسؤال والتعجب وأحياناً الأرقام يدلّ علی انفتاحه وعنايته بالدلالة، فخلو النص من هذه الاشارات تجعل الفکرة مضطربة في المواقع التي يريد إيصالها للمتلقي دون ضبابية.

المصادر والمراجع

– أبوعون، ناصر (2013م)، عشبة جلجامش: جمالیات الإیقاع في شعر “عبدالرزاق الربیعي، الأردن: كنوز المعرفة.

– البقمي، فهد مرسي محمد (لاتا)، «ظاهرة التشكیل البصري في الشعر بین النظریة والتطبیق: تجربة الناقد محمد الصفراني أنموذجاً»، المجلة العلمیة لكلیة التربیة، جامعة الباحة المملكة العربیة، العدد 3.

– بلاوي، رسول وآخرون (2015م)، «جمالیات الأسالیب البصریة في شعر عدنان الصائغ»، مجلة دراسات في اللغة العربیة وآدابها، نصف سنویّة محكمة، العدد ا21، ربیع وصیف 1394هــ.ش، صص27-48.

– الربیعي، عبدالرزاق ( 2000م)، جنائز معلقة، مسقط: عمان.

———- (2006م)، خذ الحكمة من سیدوري، بابل، منشورات زیورخ.

———-  (2010م)، الأعمال الشعریة لانا.

———-  (2019م)، الأعمال الشعریة (الجزء الأول)، بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات والنشر.

———-  (2019م)، الأعمال الشعریة (الجزء الثاني)، بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات والنشر.

– زكي، أحمد (2012م)، الترقیم وعلاماته في اللغة العربیة، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعلیم والثقافة.

– زینل، طلال (2011م)، القصیدة المرکّزة في شعر «عبدالرزاق الربیعي»، دمشق: دار الحوار، رسالة أکادیمیة تقدم بها الباحث لنیل درجة الماجیستیر في النقد الحدیث، جامعة الموصل.

-شرتح، عصام(2011م)، آفاق الشعرية / دراسة في شعر يحيى السماوي، دمشق: دار الينابيع، ط 1.

– الصفراني، محمد (2008م)، التشكیل البصري في الشعر العربي الحدیث، بیروت: دار البیضاء، ط 1.

-صمادي، إمتنان عثمان (2001م)، شعر سعدي يوسف: دراسة تحليليّة، عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، ط 1.

-عبدالرحيم، محمّد (2000م )، السرّ والسكوت والصمت في الشعر العربي، بيروت: دار الراتب الجامعيّة، ط 1.

– عبدالرضا، حیدر: (2014م)، القصیدة بین مرجعیة الذات وحداثة المحتمل النصي- قراءة في عوالم شعریة “عبدالرزاق الربیعي”- حیدر عبدالرضا، بغداد: دار الجواهري.

– العذاري، ثائر عبدالمجید (2014م)، «أسلوب (الکولاج/الملصق) في شعر سعدي یوسف دیوان (صلاة الوثنی) أنموذجاً» مجلة کلیة التربیة، جامعة واسط، صص 58 – 67.

– علي ناصر، علاء الدین (2017م)، «دلالات التشكیل البصري الكتابي في النص الشعري الحدیث» مجلة الأثر، العدد 29.

– فاضل، رشا (2010م)، مزامیر السومري: قراءات في المنجز الإبداعي الشعري والمسرحي لـعبد الرزاق الربيعي، القاهرة: مؤسسة شمس للنشر والإعلام.

– فیدوح، عبدالقادر (2012م)، «بلاغة التوازي في الشعر العربي المعاصر»، مجلة الفصول الأربعة، لیبیا: الاتحاد العام للأدباء، العدد 81، صص 537 – 567 .

-محسني، علي أكبر ورضا كياني (2013م )، «الإنزياح الكتابي في الشعر العربي (دراسة ونقد)»، مجلّة دراسات في اللغة العربية وآدابها، جامعة سمنان وتشرين، العدد 12، صص 85 – 110. 

-محمدي، رضا و عباس گنجي (1392ه.ش)، «التشکيل البصري في أشعار سعدي يوسف»، مجلة نقد الأدب العربي المعاصر، السنة 3، العدد 5، 41-54.

– المرسومي، علی صلیبي (2015م)، بلاغة القصیدة الحدیثة – قراءات في شعریّة “عبدالرزاق الربیعي”- علي صلیبي المرسومي، دمشق: دار الحوار.

– الهاشمي، أحمد (1379هـ)، جواهر البلاغة في المعاني والبیان والبدیع، تصحیح وإشراف؛ صدقي محمد جمیل، قم: مؤسسة صادق للطباعة والنشر، ط 1.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى