أرثيك، وترثيك معي مكناسة الزيتون
مرثية لروح هدهد قصبة هدراش بنعيسى بوحمالة، أُلقيت في ذكرى تأبينه بقصر ديدي بمكناس يوم 18 مارس 2023
عبد الله الطُّني
(كان آخر لقاء لي بالمرحوم بنعيسى بوحمالة صيف السنة الماضية، حيث رايته من بعيد يحدق بإمعان العاشقين في باب منصور، اقتربتُ منه وقلتُ له ها أنت متلبس بعشقك الحارق لما خَلَّفَ الأجداد، حدق بي بعينين شاردتين وقال: أهلا بك يا وريث المعلقات، وأضاف وهو يعانقني: أسألك: قلت ما بك يا حَمَّال الأسرار؟ قال: هل سترثيني كما رثيتَ أصدقائي، وكان يعني الأعزاء الذين رثيتهم في ديواني الأخير معلقات سجلماسة، وهم عبد الكبير علوي الاسماعلي، وحسن المنيعي، وحسن السوسي، فقلت له: إن مِتُّ قبلك افعل، وان مِتَّ قبلي سافعل، ومن كثر محبتي له كنتُ أتمنى أن يفعل هو، لكن هاهو قد رحل وتركني أفعل.. واسمحوا لي أن افعل ما وعدتُ الراحل أن أفعل).
الآن الآن
وليس بين الآن والآن يا أهلي مسافة
هاتِ يديكَ يا عاشقَ الأدغال والفلوات
هات خباياكَ نبوءاتِك الخارقة
الآن الآن
وقد اَطبقتَ عينيك السُّمَرِيَّتين المُشْبَعَتين على الأفق البعيد والشمس الحارقة
الآن الآن
وقد أسلمتَ جناحيك لريح تراه العينُ ولا تراه
تركتَ مُريدكَ حيارى
وأسرَيْتَ مثل شهابٍ
في معارجك المُشْرِقة
الآن الآن
وقد اختارتكَ عشتارُ نديما لشهوتها
والْتَحَمْتَ بالشمس والنيازك البارقة
هاهي ترثيك معي الأسوارُ والحدائقُ
حيث كنتَ دوما تَتيهُ ولا تعود منها
إلا وبعينيك مواويلُ الأبراج
تنعيك القلاعُ والحصونُ والملاحمُ التي كانت
والأبواب السِّتةُ الشامخةُ الواقفة
يرثيك الأَسَراك الطويل الطويل الذي كم كنتَ تَضْرَعُهُ ذهابا وإياباً
كم مرات في اليوم ولا تَتْعَب
كما لو تَعِبَتْ يداك
فَصِرتَ بالعينين والقدمين تَكْتُبُ
ما تَكتُب
اصغ معي الآن قليلا
هل تسمعها تناديكَ القَصَبَة
بنعيسى يا حَمَّالَ اللآلئ مِن معادتها
كيف أُجيبها الآن أَجِبْ
تسألني عنك المَسارِبُ الخلفيةُ للأسوار:
أين الفتى الذهبيُّ الذي
كان يَدخلُ يَخرجُ، يَنِطُّ يُصْفِرُ ثم يستديرُ هل مِنْ أحد رآه
وهو يعود مُحَمَّلا بزهورٍ وطيورٍ تشتهي فِخاخَه المُحْكَمَةَ الواثقة
وفي ثناياه القشيبةِ اغنياتُ الريح الذي لا يستريح
وأريجُ النعناع يَعبَقُ من قدميه وفي مسمعيه أذان الصوامع الواصل أحلامَهُ بالسماء السامقة
أين العاشق العُذري كانت ولا زالت خطاه يانعةً
تحت نَخْلاتِ الحبول الباسقات العاشقة
تقول هنا كان قيسُ المدينة
يُقَبِّل الاطلالَ والأسوار ويبكي المآثر والأروقة
فيك ما فيكَ وهل يكفيك
يا مُنيفَ النَّظرةِ والهامة
فيك شيءٌ من فيضة الهادي
وشيءٌ من حكمة المجذوب
وشَنْشَنَةٌ من ديوان العَلَمِيِّ
وشيءٌ من نخوة اسماعيلَ العظيمِ
وفيك وميضٌ من بُروق الأعالي
وفيك من طَمْطَم الأدغال كم علامة
أيها الأسمريُّ الهَدْراشِيُّ المكناسيُّ البهيُّ هدهدُ القَصْبة الفيحاءِ العربيُّ الافريقيُّ الكونيُّ القريبُ البعيدُ المُحَدَّدُ المُجَرًد مُتْرَفُ الجهاتِ التي ترفض الآن بعدكَ أن تُحَدّ
لك المَدُّ والامتدادُ في معارض العابرين بالضوء والأناشيدِ العُذْرِيَّةِ التي لا تُحصى ولا تُعَدّ
سأرثيك الليلة ارثيك
بكل اللغات التي كانت
تَسْكُنُ النبضَ في خوافيك والحلمَ في جناحيك والشعلة الضيَّاء بقلبك المُتَّقِد
الآن الآن
إن كنتَ تسمع او ترى
(وهدهد القَصْبَة العلياء
ولو خلف الغيب دوما يسمعُ دوما يرى)
هو الذي كان بألف عين وعين
تَرِفُّ لقُدَّاس الشعر وأَخفى
رحماك أيها المفتون بالمَنسيِّ القَصِيِّ، بهوامش الظلِّ الذي تَغيب الشمسُ ولا يَغيب
أقول سافر
إن كان لا بد من السفر
سافر في الأرض بعيدا عن الأرض عن الفلك
كأنما الأرض لم تَسَعْ أحلامَكَ
كأنما الغابةُ لم تَصُن أفراحكَ
يا توأمَ الغزال يا صنوَ المَلَك
كأنما الأرض أرضٌ
وفيك عمرٌ كعمر السماء
تقول النجومُ هو لَك
ابتسمتَ قلتَ ها أنذا قد سافرتُ وما سافرت
وكيف للمقيم فيكم أن يُسافر
الآن الآن
أقول لِصَحْبِكَ والمُريدين
– أَسَمِعتم؟ –
هَوِّنُوا عليكم
ما مات منه سوى الجسدُ الخاذِلُ للأعمار وللزَّبَدْ
فهواه المستديمُ مثل هوى الريح
والغيمُ يَذهب ثم يأتي
ونارُهُ العشيقة لا تَخْتَمِد
كنار امريء القيس والمتنبي وطاغورَ وملويزي ودرويشَ ودنقلَ والمُظَفَّر
هواه باقٍ باقٍ
لا يَحُدُّهُ الماءُ
ولا زمانُ الطين والجسد
ها أنت الآن الآن
ولو من بعيدٍ من قريب
قد ألَّفْتَنا في عقدك الفريدِ المُنْفَرِد
سافِرْ ثم سافِرْ
ولا تَلْتَفِتْ أبداً خَلْفَك أو تسأل الأسوارَ (هل رآك مِنْ أحد)