الأنصار في مقام الإيثار والسخاء (1)

"ويطعمون الطعام".. نماذج مشرقة في سماء الإطعام والعطاء

بقلم: إبراهيم محمد الهمداني

الأنصار هم مجتمع الأوس والخزرج، القبيلتان اليمنيتان، اللتان هاجرتا من أرض اليمن، إلى “يثرب/ المدينة المنورة”، منذ مئات السنين، بأمر من الملك “تبع اليماني”، ملكهم في ذلك الزمان، حيث أمرهم بالهجرة إلى ذلك المكان، والاستقرار هناك، والانتظار إلى أن يظهر نبي آخر الزمان، فيقوموا باتباعه ونصرته، ولم يكن اختيارهم لهذه المهمة، قرارا سياسيا خالصا، أو رغبة سلطوية فردية، لأهداف مادية أو معنوية نفعية دنيوية، وإنما كانت استجابة لأمر إلهي، أوكل إليهم تلك المهمة، كما أوكل إلى أسلافهم من قبل، الهجرة إلى مكة المكرمة، لاحتضان ورعاية ونصرة نبي الله إسماعيل وأمه عليهما السلام، ونفس الهدف هذا هو الذي حمل الأوس والخزرج، على ترك الوطن والأهل والأحبة، والهجرة إلى المدينة المنورة، من أجل هدف سام، وغاية نبيلة، وشرف عظيم، انفردوا به على مدى تاريخ البشرية.

رغم تعاقب الزمن وطول الانتظار، إلا أن الأوس والخزرج، ظلوا محافظين على عهدهم لله، أوفياء لقضيتهم ومهمتهم، التي عهد إليهم بها، وتناقلوها فيما بينهم خلفا عن سلف، بنفس الروحية الإيمانية والأخلاقية، والإخلاص لله تعالى، والشوق لنيل ذلك الشرف العظيم، ولم يشغلهم عن غايتهم – من فترة لأخرى – سوى ما زرعه بينهم اليهود، من الأحقاد والعداوات والحروب والثارات، بهدف تشويه نقائهم القيمي والديني والأخلاقي، وتدنيس نفوسهم بالأنانية والأطماع والأحقاد، لينحرفوا بذلك عن مسار التلقي الإيجابي لهدى الله، فتعمى بصائرهم عن إدراك النور الإلهي، وبالتالي تنعدم الاستجابة الإيمانية لديهم، فيفقدون فاعلية الدور، ويحرمون شرف المهمة، وهو ما سعى لتحقيقه، ذلك النبت الشيطاني الخبيث، ممثلا في الكيان اليهودي، الطارئ على مجتمع المدينة، ولأن اليهود أهل كتاب، وعندهم أيضا نبوءات وعلامات، عن نبي آخر الزمان، فقد هاجروا هم أيضا إلى يثرب، طمعا في أن يكون النبي الموعود منهم، حسب ما تزينه لهم أنفسهم الخبيثة، وميولهم الاستكبارية التسلطية الانتقامية الشريرة، وفي حال لم يكن الموعود منهم – وهذا هو الاحتمال الراجح في قرارة أنفسهم – فإنهم سيعمدون إلى إفساد حاضنته – مجتمع الأوس والخزرج – وسلبهم كل مؤهلات التلقي الإيمانية، وعوامل الوحدة والقوة، الكفيلة بحماية هذا الدين وصاحبه، والمضي قدما في المهمة المقدسة.

لكن دسائس ومكر وخداع اليهود، الرامية إلى تفريق وحدة الصف اليمني المناصر، قد باءت بالفشل والخسران، رغم أنها أفرزت حالات من العداء والحروب، إلا أنها سرعان ما تلاشت بظهور النبي الخاتم – محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حيث هرع إليه ممثلوا الأوس والخزرج، وهو في مكة المكرمة، فآمنوا به وبايعوه، وعرضوا عليه الإيواء والنصرة، في بيعتي العقبة الأولى والثانية، في حين كان مجتمع مكة متشبثا بطواغيته ومجرميه المستكبرين، الذين عارضوا الاصطفاء الإلهي، قائلين “لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم”.

لم يذهب رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مع أهل المدينة مباشرة، رغم إلحاحهم عليه، حيث عرض نفسه في مواسم الحج، على مختلف القبائل العربية، الذين زهدوا عن شرف أولية الانتماء، والسبق في هذا الأمر، مقابل ما سيترتب عليه من خسائر، بسبب معاداة قريش واستعداء حلفائها، في سبيل أمر ليس مضمونا، ونسبة نجاحه ضئيلة جدا، وفقا لحساباتهم المادية البحتة، وفي وقت عز فيه الناصر، وغاب المعين والسند، من كل القبائل العربية آنذاك، زاد إصرار وإلحاح الأوس والخزرج، على النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بالقدوم عليهم، ومنحهم شرف الإيواء والنصرة، كونهم أهل هذا الشرف، المختارين للقيام به، منذ زمن هجرتهم بإيمانهم، الذي سكنهم وسكنوه، بمقدار سكنهم وامتزاجهم بالمكان/ الدار، كما شهد لهم بذلك الله تعالى، وخلد تلك الصورة المشرفة الناصعة، المرصعة بجليل صفاتهم ومكارم أخلاقهم، التي تفردوا بها عبر الأزمان، قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى:- “وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ”.

يقول السيد المولى العلامة المجاهد العالم الرباني، سيدي بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، في تفسير هذه الآية:- “{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (الحشر:٩)
(9) ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ويعطي الفقراء الذين تبوؤوا الدار أي المدينة المنورة تبوؤها استمروا في سكناهم لها لكونها قد صارت بلاد الإيمان والإسلام فتبوؤها لهذا، ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير بلادهم لهاجروا إليه وهؤلاء هم الأنصار. ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ لأنهم أحبوا الله ورسوله، وأحبوا الإسلام فما كان فيه نصرة للإسلام وزيادة في قوته أحبوه، فلأن هؤلاء المهاجرون جاءوا ليجاهدوا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أحبوهم بحب الإسلام. ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ مهما أوتي المهاجرون من المال لا يجد الأنصار في صدورهم أي شيء من حسد أو غيرةٍ، بل يفرحون بذلك. ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ بل حازوا الدرجة الرفيعة، وهي: أنهم يؤثرونهم على أنفسهم يؤثرون المحتاج ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ حاجة شديدة. ﴿وَمَنْ يُوقَ﴾ من يقه الله ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ بأن أعانه على نفسه حتى أنفق في سبيل الله وفي مرضات الله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فشح النفس خطر على المؤمن، وقد فاز من وقاه الله شره”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى