د. محمود رمضان
يسميه كثيرون قاهر العطش، إنه بائع العرقسوس الذي يدور في الشوارع والميادين بأدواته المميزة، يحمل الإبريق الزجاجي أو النحاسي كبير الحجم الذي صنع خصيصاً ليحافظ على برودة العرقسوس طوال اليوم، ويحمله بواسطة حزام جلدي عريض يحيط بخصره ويتدلى منه إناء صغير للأكواب، بينما يمسك بيده اليمنى صاجين من النحاس يصدر بهما رنيناً، ليعرف المارة مكانه، فيهرولون إليه طلباً لهذا الشراب الجميل الذي يذهب العطش من أول رشفة.
يحمل البائع في يده اليسرى إبريقاً بلاستيكياً صغيراً مملوء بالماء لغسل الأكواب، ويرتدي الرجل زيا مميزاً، جلباب أبيض، وطربوش أحمر طويل، ويبتسم لكل زبون يطلب منه كوباً من العرقسوس، وينحني وهو يصب الكوب فتعلو الرغوة وتفور من الكوب، منادياً (شفا وخمير يا عرقسوس)، وهذا الشراب زهيد الثمن، لكن مع كثرة البيع يحقق البائع دخلاً يومياً يأمل أن يكفي احتياجات أسرته.
والعرقسوس نبات معمر من الفصيلة البقولية، وذو قيمة علاجية عالية، وتم العثور على جذور العرقسوس في قبر الملك توت عنخ آمون، وكان يقتصر استخدامه وشرابه على الملوك الفراعنة، وكان الأطباء المصريون القدماء يخلطونه بالأدوية المرة لإخفاء طعم مرارتها، وكانوا يعالجون به أمراض الكبد والأمعاء والسعال والربو وغيرها من الأمراض.
وتمر القرون تباعاً ليصير شراب العرقسوس متاحا لعامة الناس، وفي شهر رمضان يقبل الصائمون على شرائه ليكون أول ما يفطرون عليه، خصوصاً وأن شهر رمضان في الأعوام الأخيرة يأتي في أشهر الصيف وما يتبعه من حر شديد وعطش أشد.
وانتشر باعة العرقسوس في أرجاء مصر، حتى في محلات العصائر، يقف العرقسوس جنباً إلى جنب مع مشروب الخروب والسوبيا وعصير المانجو والفراولة والبرتقال وغيرها، والمدهش أن شراب العرقسوس ليس محايداً، فيعشقه البعض عشقاً فريداً، وينفر منه آخرون نفوراً شديداً.
الجميل في تميز بائع عن آخر هو سر صنعة العرقسوس، فكثيرون ينقعونه منذ غروب الشمس حتى الصباح ويصفونه بقطعة قماش خفيفة ليعبئه البائع في إناء زجاجي أو نحاسي كبير ويضع فوقه كتل الثلج التي تبرد المشروب خلال معظم ساعات النهار، ليشرب الناس شراباً مثلجاً يطفيء نيران العطش، وهو مناسب للجميع لأنه بدون إضافة سكر، ومذاقه الطبيعي حلو ومنعش.
ولأن التطور لحق بكل شيء، فمحلات العطارة أصبحت تبيع (بودرة العرقسوس)، لتشتريها ربة المنزل وتضعها في الخلاط مع الماء، ويكون المشروب جاهزاً في خلال دقيقة واحدة، ثم تصبه في الأكواب وفي كل كوب تضع مكعبات الثلج.
لكن ربات البيوت كبيرات السن لا يستخدمن هذه الطريقة، بل يلجأن للطريقة القديمة وهي نقع العرقسوس ليلة كاملة مع قليل من بيكربونات الصوديوم، ثم تصفيه في الصباح في دورق زجاجي كبير وتضعه في ثلاجة منزلها، لتمنح منه جاراتها وزائراتها شراباً جميلاً.
وسألت بائع عرقسوس: لماذ مشروبك أفضل مما نعده في البيت، مع أن صنعه في البيت أكثر نظافة، فرد قائلاً: لكي نبيع لكم ويرزقنا الله من فضله، تماماً ككشري البيت وكشري المحل وفول البيت وفول عربة الفول، أرزاق مقسمها الخلاق، ثم تركني منادياً: شفا وخمير يا عرقسوس!