الفكرة والدخان لـ” معين شلولة “.. محتوى الشكل وشكل المحتوى

الدكتور خضر محجز | فلسطين

أولاً: القصيدة (1) من الضفيرة الشعرية (أمل):

يقول الشاعر:

“هنا عندما تكبر الأرض؛

أبني جبال الهواء النقي

وأدنو كحقل من الساقيةْ

وأرسم بالصوت ضحكي

وشيءَ الهدوء

وأمي وريشَ الزمان؛

وإن أرجأتني اليد الباليةْ”(ص7).

ثانيا – القراءة النقدية:

أولاً/1: احتمالات المعنى:

ها هنا كلام يقال له قصيدة. فما الذي يجعل من كلام ما قصيدة؟.

سنتأمل في احتمالات المعنى قبل كل شيء. فنحن لا نقبل كلاماً دون أن نفهم معناه، أو على الأقل نحدس بمعناه.

ولأن الشاعر لا يتحدث كما يتحدث الناس جميعاً، ولأن لغته شاذة، ولأن هذا الشذوذ هو الذي يكسبها أسلوباً؛ فمن الضروري لنا إذن أن نعيد التأمل في لغته، مستخدمين في ذلك علم الأسلوب الشعري، أو الشعرية(1).

يبدو أن لدينا هنا طفلاً، يعبر عما يرى، إذ لا يمكن لنا أن نعتبر هذا من كلام البالغين.. لا يمكن أن يتصور بالغ عاقل راشد، أن في مقدوره  ــ عندما تكبر الأرض ــ أن يبني جبالاً من الهواء النقي. لأن ذلك مستحيل واقعياً وشعورياً، في الظرف العادي، لدى الأشخاص العاديين. وحتى لو تصورنا عاقلاً يتصور هذا، فلا يمكن الاستمرار في التواصل اللغوي معه، خصوصاً حين يتطور هذا الهذيان، إلى تصور دنو حقل إلى الساقية؛ أو رسم الضحكات بالصوت وقليل من الهدوء. وحتى لو كان بمقدوره رسم أمه، وتصور وجود يد بالية، فلا دليل على أن ثمة شيئاً واقعياً اسمه “ريش الزمان”!..

لا يعبر هكذا إلا طفل يستخدم الكلمات بكراً، إذ ينسج بينها علاقات بكراً. الكلمات بكر لأن علاقات الربط بينها بكر، وإلا فلا كلمة تحمل معناها من ذاتها خارج السياق، خصوصاً في الشعر.

لدينا ثمة طفل هنا في يده ريشة وعلبة ألوان، يرسم في الهواء أشياء طالما تخيلها. فمن أين نشأ مصدر هذا التخيل؟

هل قلت «طفل»؟ أظنني قلت ذلك حقاً، فالشاعر الحقيقي طفل، يمتلك دهشة الطفل، وأمنياته وأحلامه، وربما طهارته.. والطفل لغته شاذة كما نعرف، شاذة بمقاييسنا، فهو لم يتعلم بعد كيف يربط العلاقات، بين الكلمات، بطريقة البالغين. لكنه يعي ما يقول، فيما المشكلة فينا نحن الذين يصعب علينا أن نعي ما يقول، وحين نعي ما يقول، تعترينا الدهشة! وهذه الدهشة هي التي تحاول القصيدة أن تحدثها لدينا.

أولاً/2: الفجوة: التوتر والمسافة:

ما اسم هذا؟

إنها الفجوة بين وعينا ووعيه، لغتنا ولغته. إنها فجوة تحققت من هذا الاختلاف اللغوي بيننا. إنه يتحدث نفس لغتنا، لكن بطريقة لا تشبه طريقتنا، ومع ذلك فهي تسرنا ونقلدها أحياناً.

لكننا نعرف أن من يتكلم هنا بالغ وليس طفلاً. ونعرف أنه يريد أن يقول لنا شيئاً، يتوقع أن في مقدورنا أن نفهمه، ببعض التأمل المندهش. وهذا التأمل المندهش هو نوع من الإدراك الجمالي المنشئ للمتعة: هذا التأمل المدرك لوظيفة الشعرية، أو الوظيفة الجمالية للقصيدة. وفي هذا يقول جان كوهين:

“الشعرية ــ في التصور الذي أحاول أن أُنَمِّيه هنا ــ وظيفةٌ من وظائف ما سأسميه: الفجوة، أو مسافة التوتر… إنها خصيصة مميزة، أو شرط ضروري، للتجربة الفنية؛ أو بشكل أدق: للمعاينة، أو الرؤيا الشعرية؛ بوصفها شيئاً متمايزاً عن ــ وقد يكون نقيضاً لـ ــ التجربة، أو الرؤية العادية اليومية”(2).

فلندع جان كوهين لهرطقاته، ولنبدأ نحن في تفكيك هذه القصيدة، مبتدئين بالسؤال: كيف حدث أن صرنا راغبين في قراءة كلامٍ كهذا، وتأمله، مع كل هذه الفجوات الفاصلة، بين وعينا وأسلوبه؟

لا بد من تمهيد يقرب بين وعيينا، وعينا قراءً ووعي الشاعر منتجاً. يبدو لي أن الشاعر هنا متنبه ــ بحدسه ــ إلى ضرورة هذه المقدمة المنطقية المتفق عليها. لهذا نراه يقول، بين السطور: «أرسم أمي» «أرجأتني اليد البالية» ففي هذين التعبيرين نجد المشترك بيننا، فصورة الطفل يرسم أمه معهودة لدينا، وتشجعنا على التوغل مرة أخرى في القصيدة، وكذا صورة اليد البالية لعجوز هو جدٌّ أو أب..

لدينا هنا ما يغرينا بالشعور بأننا قادرون على التواصل مع الشاعر، خصوصاً ونحن ننتقل إلى علاقات لغوية أكثر تعقيداً، لكنها قادرة على الوصول، بعد استعانتها بما سبق. فجملة «تكبر الأرض» من الممكن تصور محتواها، وإن لم يكن واقعياً. وكذلك «دنو حقل من الساقية» يمكننا أن نتصوره، مع قلب بسيط للعلاقات المعهودة: فالساقية والحقل متقاربان في الواقع، بغض النظر عمن كان منهما الفاعل لذلك.

أولاً/3: محتوى الشكل:

إن هذا التطور في القراءة، من لدنا، هو ما يجعلنا نعيد القراءة مرة وأخرى، حتى يتحصل لنا نوع من المعنى، الذي أنشأناه نحن، بعيداً أو قريباً مما عناه الشاعر. هكذا أمكننا أن نعرف كيف تنشئ القراءةُ القصيدةَ، في كل مرة، ولدى كل قارئ. وهذا هو أحد المعاني:

يجلس الطفل على الأرض، كما يجلس على شاطئ البحر الكبير، فيتمنى أن لو كانت الأرض باتساع البحر، ويتوقع أن الأرض تنمو، مثلما ينمو هو؛ وتكبر، مثلما يكبر هو!. ويهيئ نفسه لما سيفعل حين يحدث هذا، مقرراً مسبقاً أنه سيبني جبالاً كبيرة، هو محتاج أليها!. إنه محتاج لما يراه ضرورياً له وغير موجود: هواء نقيٌ. يا لله! هواء نقي يحتاجه طفلٌ في غزة، فيحلم بأن يحصل على أكبر كمية منه، واثقاً من قدراته على أن يفعل ذلك، حين يكبر: فلا جرم يرى الصغير في الكبار جبابرة!.

لقد أصبح واضحاً الآن أن الطفل يعيش ــ في حلمه ــ وسط جبال من الهواء النقي. فالطبيعة مثالية هنا، كما الطفل مثالي، والكل متوائم بعكس حياة الكبار. فلم لا يدنو من الساقية؟ إنها ترفع الماء من النهر إلى الحقل البعيد، فلم لا يقترب الحقل من النهر معتمداً على ذاته؟ ألا يعتمد الكبار على أنفسهم؟ سيدنو الحقل من الساقية، ليكتمل بهاء الأشياء. وحين يحدث كل هذا لا يتبقى سوى الريشة والألوان والرسم، لحفظ هذا الجمال من الاندثار. أَوَعْيُ كبيرٍ يتسلل هنا في القصيدة، ليكسر الجدار الرابع الذي طالما أقنع جمهور المسرح أنه يشاهد الواقع؟. ثمة طفل ليس طفلاً، يريد أن يقول لنا إنه الان مجرد ممثل يلبس قناع طفل، فيطل من وراء القناع كلما خشي أن نقتنع بأنه مجرد طفل. كيف يطل الطفل فنراه كبيراً؟ حين يقرر أن يرسم ضحكه. نعم فهو حين يقرر رسم الضحك يعلم أننا نعلم أنه يريد الإمساك باللحظة قبل التبدد. وليس مهما ما سيرسم بعد مع عالمه الأثير من لواحق تشكل خلفية المشهد.

المشهد المرسوم الآن هو الآتي: طفل يلهو وسط جبال الهواء النقي التي بناها، ويدنو من النهر كما يفعل حقل يانع. وفي خلفية اللوحة هدوء غير معهود ولا يمكن تسميته «شيء الهدوء» وأم تراقب أمن الطفل، وريش زمان منتوف يمنع الزمان من الطيران ــ تأبيد اللحظة ــ ويد جد عجوز تحاول أقناع الطفل بأن كل هذا مجرد هراء حالم، رمزاً لمحاولة أخرى لكسر الجدار الرابع، جدار الإيهام.

ثانياً: القصيدة (5) من الضفيرة الشعرية (أسقطتني الريح):

“مَسَخَتْنا المعرفةْ

آهِ يا حزن سواقينا/ يموت النهر والثور معا

وارتطمنا كالشبابيك بحرّاس الشعاع

فاندلقنا مثلنا في الأغلفةْ

هل سيعطيك التخلي عنك نجماً غير موتٍ في

التجلّي فيك؟/ هيا

كل هذي أرصفةْ”(ص31).

ثانياً/1: قسوة المعرفة:

يقول نيتشه: “إن المعرفة مسرة لمن تعززه إرادة الأسد”(3). ثم يقول في موضع آخر: “المعرفة تخنق طلابها”(4).

إذن فالمعرفة لها وجهان: وجه سار وآخر محزن. فالمسيطرون يستمدون من معرفتهم قوة، والقوة مسرة. وعلى العكس من ذلك تماماً الخاضعون، فمعرفتهم بأنهم خاضعون تورثهم الحزن، خصوصاً حين لا يكون ثمة أمل في تحررهم من الخضوع. والشاعر حين يكتب القصيدة ليس بالضرورة أن يكون واعياً لما يقوله نيتشه أو غيره، بل ربما لا يكون قد قرأ نيتشه من الأصل، لكن الشعر هو الآخر حكمة كالفلسفة، وإن اختلفت أداة المعرفة في كلٍّ. بل إن “الشعر أقرب إلى الفلسفة… لأنه أميل إلى قول الكليات”(5).

“مَسَخَتْنا المعرفةْ

آهِ يا حزن سواقينا/ يموت النهر والثور معا”

ثمة كلية هنا: فنحن نعرف كم هو حزن السواقي، ولولا ذلك لما حفلت أغانينا بذلك. ويبدو أن هذا الحزن المقيم يهد كيان النهر، فيغير مجراه: فلا شيء أكثر دفعاً للهرب من أنين ساقية يدور بها ثور خاضع، لا تُعرف نهاية لعذابهما. إن أنين الساقية هو صوت ألم الساقية والثور معاً.

هذه معرفة شعرية. والمعرفة الشعرية حكمة خانقة، لأنها انفراد بمعرفة ما لا يعرفه الآخرون. وإنه لمحزن أن نعرف ما ينكره علينا الجمهور!. تعرف السواقي أنها ترفع الماء من النهر إلى المزرعة، كما تعرف بأن القوة التي تدير حركتها هو الثور. ثمة عالم متكامل ومعقد هنا، مكون من: نهر وثور وساقية. والكل منظم وفق قانون. ورغم أن القوانين ليست معروفة للمقودين في غالب الأحيان، إلا أنها معروفة هنا. الثور يعرفها وكذلك النهر والساقية. فيا للحزن!. يا للحزن المقيم أن يعرف الثور أن عليه أن يعمل دون توقف، وأن يعرف النهر أنه لا انفكاك له عن هذا الاستلاب إلا بهجرة الوطن، وأن تبكي الساقية أبد الدهر!. أما كان الأجدر بكل من النهر والساقية والثور ألا يعرفوا ما هم مسيرون له من العذاب؟

هكذا تصبح المعرفة مسخاً للخاضعين، بقوة ما هي سيطرة للمتحكمين. معرفة هي قوة لأناس ومسخ لآخرين. هكذا تغدو المعرفة قوة للأحرار فقط. أو كما يقول هيجل: “إن الإنسان لا يكون حراً إلا إذا عرف نفسه”(6). وكم من مخلوق لا يعرف نفسه!

المعرفة مسخ، والنهر يموت.. إنها لغة غير متوقعة، بمعنى أننا بين يدي تعبير خاطئ في العرف اليومي العادي: فلا أحد يقول بأن معرفته مسخته. هذا التعبير في النثر ــ الذي هو قرين اليومي ــ خطأ. فللكلام اليومي معيار خرجت القصيدة عنه. وحين تخرج اللغة عن التعبير المعتاد تصبح انزياحاً (deviation): والانزياح أسلوب خاص بالشعر، و”ليس له في الواقع إلا دلالة سالبة: فتعريف الأسلوب باعتباره انزياحاً، ليس أن نقول ما هو، فالأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً، ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف. ويبقى مع ذلك أن الأسلوب ــ كما مورس في الأدب ــ يحمل قيمة جمالية. إنه انزياح بالنسبة إلى معيار، أي أنه… خطأ مقصود”(7).

والآن دعونا نرَ كيف يمكن أن تكون المعرفة مسخاً للبعض، في الحياة الواقعية. نحن الآن بين يدي قصيدة كتبها شاعر. والقصيدة هي من جنس قصيدة النثر. ونحن نعلم من تاريخ قصيدة النثر، ومن واقعها كذلك، أنها تنشئ لنفسها حزباً، يشبه أن يكون ميليشيا مسلحة. لقد حدث ذلك في الماضي، وما يزال يحدث اليوم، وفي العديد من الأمكنة، بحيث صارت ميليشيا النثر تنشر إرهابها في مواجهة شعراء التفعيلة. والحق أنه كان دوماً أكثر قسوة وشراسة وعدوانية، من حرب (التفعيليين) على (العموديين) في حقبة أسبق. ولقد حدث مراراً أن أتى أحد على سيرة محمود درويش مثلاً، فرأيت حدثاً يقلب شفتيه ازدراءً وهو يتمتم: “هؤلاء التفعيليين الأوغاد!.. وإنها لمعرفة أشبه بالمسخ حقاً، وإنها لمعرفة تجر أسىً، يشبه أسى تيريزياس حين تعرض للمعرفة، فأعمته. تقول الأسطورة:

“يُروى أنّه خطرَ لجوبيتر(8)، الذي انتشى بكوثر الآلهة، أن يطرح عنه همومه الثقيلة، لكي يلهو بحرِّيةٍ، مع جونون”(9)، الخالية هي نفسها من الهموم كلّها. قالَ لها: أكيدٌ أنّ الشّهوة التي تحسّ بها الأنثى، أعمق من تلك التي يحسّ بها الذكر. أنكرت جونون ذلك. واتّفقا أن يستشيرا تيريزياس العلاّمة(10)؛ ذلك أنه كان يعرف شهوات الجنسين: فذات يومٍ، ضربَ بعصاه حيَّتين كبيرتين، تمارسان الجنسَ في غابةٍ خضراء، وحينذاك ــ يا للمعجزة! ــ انقلب من رجلٍ إلى امرأة، وبقي كذلك طوال سبعةِ فصولٍ خريفيّةٍ، وفي الفصل الثامن رآهما ثانية، فقالَ لهما: إن كان للضّربات التي تلقّيتماها مثلُ هذه القوّة لتغيير جنس من يضربكما، فإنني أودّ اليومَ كذلك أن أضربكما. ضربَ الحيَّتين، وسُرعان ما استردَّ شكلَه الأوّل، ومظهره الطّبيعيّ. إذن، أُخذ تيريزياس حَكماً في هذا النقاش المُمتع، فأكّدَ رأي جوبيتر. وإذ اغتاظتْ ابنة سارتون غيظاً مُفرطاً، لا يستحقّه هذا الموضوع، كما يؤكّدون، فقد حكمت على عينيه بالبقاء في ليلٍ أبدي. لكنّ الأب الكلّيّ القدرة، (إذ لا يحقّ لأيّ إلهٍ أن يُهدّمَ صنيعَ إلهٍ آخر)، أعطاه، بدلاً من الضّوء الذي فقده، أن يعرفَ المستقبلَ، مُخفِّفاً العقابَ بفضلِهِ هذا”(11).

تلكم معرفة نتيجتها الحزن.

معين شلولة لم يكن يوماً عضواً في هذا الحزب، منذ لحظاته الأولى لاقتراف القصيدة. كانوا مجموعة مقترحين، لا يقترحون على أحد بقدر ما يقترحون على أنفسهم: يقترحون أنهم أشعر من محمود درويش، ويشتمونه باعتباره (تفعيلياً فظاَ). ورغم ذلك فقد قدموا لي (موادهم) لأقول رأيي فيها، في احتفالية من احتفاليات وزارة الثقافة. وحين علموا أن رأيي في أغلبهم لا يسر، فقد بدأوا بمهاجمتي في وسائل الإعلام، قبل نشر تقريري، الذي أفشاه لهم زميل (تفعيلي) يرغب في نيل اعتراف الميليشيا به شاعراً. كان التقرير ينتخب ثلاثة من بين عشرين متقدماً، فيقرر أنهم وحدهم الذين يعدون بمستقبل ما لكتابتهم. وكان معين واحداً من هؤلاء الثلاثة. وكان معين يرى كم هو شائه هذا المسخ الذي يخلقه متشاعرون صغار، يراهم حوله، ويختلفون عنه، بمعرفتهم الممسوخة، التي ترتطم بـ(حراس الشعاع). ويبدو أنني كنت أحد هؤلاء الحراس، الذين تسببوا في اندلاق الميليشيا، في مجموعة أغلفة، من المطبوعات التي لم يعد يذكرها أصحابها:

“وارتطمنا كالشبابيك بحراس الشعاع

فاندلقنا مثلنا في الأغلفة”

لقد صدقوا أنهم شعراء، ثم وجدوا طريقة ما لطباعة ما كتبوا، ثم طواهم الدهر فلم يعد أحد يسمع بهم، باستثناء الثلاثة. فأي ندم يجتاح أرواحهم الآن، نتيجة معرفتهم المتأخرة الآن أنهم كانوا تائهين!..

ليست هذه سوى قراءة محتملة للقصيدة، من ضمن احتمالات متعددة، تنتظر قراءً آخرين. لكنها قراءة تستند إلى واقعة محددة، واقعة أن صاحب القصيدة صادف أنه كان واحداً من الثلاثة الذين تنبأت لهم بالنجاح شعرياً. يمكن تصور كم كان سرور جوبيتر بالانتصار على جونون زوجته، حين نعلم أنه قد سرني فعلاً أن نجح الثلاثة الذين تنبأت بهم، فيما تساقط الباقون. فلا ريب أن في كل منا شبهاً بجوبيتر.

هل سيعطيك التخلي عنك نجماً غير موتٍ في

التجلّي فيك؟/ هيا

كل هذي أرصفةْ”

تبدأ هذه المقطوعة ــ وسنبين فيما بعد لم سميناها مقطوعة ــ بسؤال لا ينتظر إجابته: “هل سيعطيك التخلي عنك نجماً غير موتٍ في التجلّي فيك؟”، لأنه سؤال لا يكاد يكتمل، حتى يعرض عنه السائل بحرف الإضراب (هيا) الذي يفيد هنا معنى (كَلاَّ) كما في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى﴾”(12). وليس بعد الإضراب عن المعنى المنفي إلا الإثبات الذي يفيد القصر: كل هذي أرصفة، أي: ليست كل هذي إلا أرصفة، أرصفة انتظار ما لا يأتي.

ثانياً/2: القصيدة المقطوعة:

لم سمينا القصيدة مقطوعة؟:

هذه قصيدة موسيقية مترعة بالإيقاع. والإيقاع هادئ لكنه قوي ملحاح يوضح مدى إلحاحه أمران: قصر الأسطر الشعرية، والقوافي المتتابعة. وحين يجتمع تتابع القوافي مع قصر الأسطر تصدح الموسيقى. ولكي نسهل تأمل ذلك على المتلقي، دعونا نرقم الأسطر الشعرية، لنظر كيف تتعانق القوافي في الأسطر القليلة:

1ــ مَسَخَتْنا المعرفةْ

2ــ آهِ يا حزن سواقينا/ يموت النهر والثور معا

3ــ وارتطمنا كالشبابيك بحرّاس الشعاع

4ــ فاندلقنا مثلنا في الأغلفةْ

5ــ هل سيعطيك التخلي عنك نجماً غير موتٍ في

6ــ التجلّي فيك؟/ هيا

7ــ كل هذي أرصفةْ

ثانياً/2ــ أ: القوافي، أو تعانق النهايات:

تنتهي الأسطر (1، 4، 7) بالكلمات الآتية على التوالي: (المعرفةْ، الأغلفةْ، أرصفةْ) وكلها مختتمة بالتاء المربوطة التي تُلفظ هاءً ساكنة، توحي بلحظة صمت. ولا يكون صمت في القصيدة الحديثة إلا بهدف التأمل. يمكن القول بأن هذه تشبه القوافي في القصيدة الكلاسيكية، وإن كانت وظيفتها مختلفة لاختلاف طبيعتي القصيدتين.

ثانياً/2ــ ب: التقارب الصوتي، أو تعانق البدايات:

في السطرين المتلاحقين (3، 4) تواجهنا كلمتان: كلمة في بداية كل سطر منهما، لا تقارب أختها في الإيقاع الصوتي فحسب، بل تقيم معها علاقة سببية، بحيث تبدو أخراهما نتيجة لأولاهما، هكذا (وارتطمنا.. فاندلقنا). أنت تلاحظ هنا الإيقاع الصوتي المتكرر (نا) بهذه الطريقة الصائتة.. ثمة صوت هنا يناديك: تنبه! أو توقف لتتأمل قبل مواصلة السطر. نحن هنا نواجه زمناً ينساب، وكلمات تتوقف. ونحن نعلم أن “الأعمال الأدبية تتحرك في الزمان كالموسيقى”(13).

فالإيقاع هنا ناتج عن علاقتين: علاقة الحروف، وعلاقة المنطق.

وقل مثل ذلك في العلاقة بين كلمتي (التخلي، التجلي) في بداية كل من السطرين (5، 6) على التوالي.

ثانياً/3: التناص (Intertextuality):

التناص هو عملية استدعاء ذهني لنصوص استقرت طويلاً، في الوعي المدرك وفي اللاوعي غير المدرك، الكامن وراء كثير من النشاطات القولية والفعلية. فهو إذن علاقة بين نصين “تؤثر في طريقة قراءة النص المتناص: أي الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى، أو أصداؤها”(14).

يكتب الكاتب مادته فتقفز نصوص أخرى سابقة إلى سطوره ــ غالباً دون كَدّ ذهنٍ أو استدعاء متعمد ــ كانت مستقرة هناك في أعماقه منذ مدة. وقد بين جيرار جينيت ركني التناص: فسمى النص المتأثر أو الحديث: (hypertext)، ثم سمى النص المؤثر أو الأصلي: (hypotext)(15).

إذن فالذي يستكشف النصوص الأولى هذه، في النص الحديث، هو المتلقي. وهكذا يشارك القارئ في صناعة القصيدة. فكيف حدث ذلك في القصيدة (3) من الضفيرة الشعرية (ومض المسافات الحميمة):

 “اسجدْ معي يا ليل..

قد تسقط الأقمار أو تتململ النجمةْ

الضوء عند الله..

والزيت والخيطان في العتمةْ”(ص39).

دعونا نتأمل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾(16).

لنرى بعض أوجه تأثر القصيدة بنص الآيات الكريمة، دعونا نتأمل في هذا التقسيم:

1ــ النص المتأثر (hypertext): اسجدْ معي يا ليل    

النص المؤثر (hypotext): يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ

///

2ــ النص المتأثر (hypertext): قد تسقط الأقمار أو تتململ النجمةْ    

النص المؤثر (hypotext): الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ

///

3ــ النص المتأثر (hypertext): الضوء عند الله       

النص المؤثر (hypotext): اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

///

4ــ النص المتأثر (hypertext): الزيت والخيطان في العتمةْ

النص المؤثر (hypotext): الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ

///

5ــ النص المتأثر (hypertext): الصورة الكلية لليل المطالب بالسجود مع الشاعر، رجاء أن تسقط عليهما أقمار الرحمة ــ أو على الأقل تتململ نجومها ــ وتستمد ضوءها من مصباح الله   

النص المؤثر (hypotext): الصورة الكلية للساجدين في بيوت الله، سعياً لنور الله، الذي تمثل له الآيات بالمصباح والزجاجة.

……….

والآن، هل سأكون مفتئتاً إذا ما قلت: إن تناصاً آخر، مع شاعر قديم، يكمن في هذه الأسطر الشعرية القليلة؟

سأترك لكم المجال لتأمل الحادثة الآتية من التراث:

امتدح أبو تمام المأمون قائلاً:

 إقدام عمرو في سماحة حاتم/

في حلم أحنف في ذكاء إياس 

فلامه بعض الحاضرين قائلاً: أتقول هذا لأمير المؤمنين، وهو أكبر قدرا من هؤلاء؟

فأطرق أبو تمام قليلاً ثم رفع رأسه فقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه/

مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره/

مثلا من المشكاة والنبراس(17) 

ـــــــــــــ

الإحالات:

  • معين شلولة. الفكرة والدخان (مجموعة شعرية). ط1. دار شرقيات. القاهرة. 2008

1ــ انظر: جان كوهن. بنية اللغة الشعرية. ص15

2ــ كمال أبو ديب، في الشعرية. ص20

3ــ نيتشه. هكذا تكلم زرادشت. ص175

4ــ نيتشه. هكذا تكلم زرادشت. ص187

5ــ أرسطو. كتاب أرسطوطاليس في الشعر. نقل أبي بشر: متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي. حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية الدكتور شكري محمد عياد. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1993. ص48

6ــ هيجل. محاضرات في تاريخ الفلسفة.ص95

7ــ جان كوهن. بنية اللغة الشعرية. ص15

8ــ جوبيتر هو زيوس: رب الأرباب في الميثيولوجيا اليونانية.

9ــ جونون ابنة ساتورن: هي هيرا ربة الزواج. وزوجة جوبيتير.

10ــ تيريزياس: العراف الأعمى، الذي سيشتهر اسمه في مسرحية (أوديب ملكاً).

11ــ أوفيد. التحولات. ترجمة أدونيس. ط1. المجمع الثقافي . أبو ظبي. ص152 ــ 153

12ــ المعارج. آية15

13ــ نورثروب فراي. تشريح النقد. ترجمة وتقديم محيي الدين صبحي. الدار العربية للكتاب. طرابلس الغرب. 1991. ص115

14ــ محمد عناني. المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي- عربي. ط3. القاهرة. الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان. سلسلة أدبيات. 2003. ص46

15ــ انظر: محمد عناني. المصطلحات الأدبية الحديثة. مصدر سابق. ص47

16ــ سورة النور. الآيات35 ــ 37

17ــ انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. ط1. ج10. تحقيق علي شيري. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1988. ص330

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى