بقلم: هيثم نافل والي
يخال أن الإنسان الطيب اليوم ممقوت من الآخرين، وعليه فوق ذلك أن يدفع ثمن طيبته وبساطته ورقته وهدوئه للناس الذين يحيطون به لأن الله جبله على هذه الطباع الجميلة الوادعة المحبوبة سمعته وحريته ويحارب حتى في رزقه ويودع السجن إن تطلب الأمر ذلك!.
خلع ضمير مخسوف الخدين غائر العينين بأيدي مرتجفة بجلسته المقرفصة في زنزانته الباردة التي تشبه كهف في بطن الجبل قميصه المدعوك فاقد اللون بسبب إستهلاكه ناقص الأزرار من كثرة أرتدائه، عض ياقة قميصة بأسنانه ليفصل قماشها عن الورق المقوى الأسمر الذي يغلفها، نجح بعد جهد كلفه اللهاث وسيل من اللعاب المر، أخرج القصاصة الورقية منه، لبس قميصه الممزق الياقة مجدداً، زرر الأزرار المتبقية إتقاء البرد الذي كان قد حل في عظامه لا يريد أن يفارقه، هو لم يشعر بان أرتداء القميص سيقيه برودة ورطوبة الزنزانة، بل فعلها بشكل روتيني لم يعِ إليه، أخرج من فتحة بنطاله الجانبية الممزقة المثقوبة قطعة من الخشب بحجم عود الثقاب كانت بقايا من قلم رصاص أحتفظ به وقت الضرورة، بلل قمته الخاوية الجرادء السوداء وكتب على ورق المقوى الذي أخرجه من ياقة قميصة منحنياً كأنه يعاني قصر النظر بسبب الإنارة الخافتة التي تشبه ضوء يشعه سراج يحتضر: “كنت شريفاً قبل أن أودع السجن، فترة لا أستطيع الآن حساب أو تقدير وقتها بسبب النسيان، ضاع مني التاريخ الذي كنت أتغنى به كرجل شريف، أقصد هنا بالتحديد، كنت أعمل كمصير مشترك بين الشرفاء قبل أن أصبح عاطلاً محبوساً في زنزانة باردة كسرداب تذبح وتقصب فيه الكباش، كانت في وقت ما لم أعد أذكره أعمالنا الحسنة، الطيبة، الجميلة، السخية هي نفسها أثامنا في نظر الآخرين من أبناء نسلنا الذين كنا نظن بأنهم من صنفنا، وشوا بنا أصحاب العمل، قالوا عنا ما لا يقال، سخطوا علينا، أمروا بمعاقبتنا على ما اقترفنا من فضيلة أصبحت في زمنهم حائلة اللون من طيبة وبساطة وتواضع وحب الناس ومساعدتهم، طردنا من رزقنا، أودعنا السجن، وها أنا أكتب إليكم أطلب الرحمة من الله والعفو منكم على ما اقترفت يدي من شرور وسوء يخل بنظام المجتمع، أكتب إليكم وأنا أشعر بأنني أموت في مكاني”.
ضمير
بعد أن شله التعب توقف عن الكتابة، طوى ورقته السمراء التي انتزعها من ياقة قميصه بحرص، تسربل في مشيته حتى باب الزنزانة، طرقها بيد مرتجفه راعشة، فتح الحارس الغليظ الطويل كأحد العمالقة السالفين الفتحة الوحيدة التي تمتلكها الزنزانة وسط الباب كعين وحش منها غذائهم وشربهم كما شتيمتهم وسبابهم يتلقفون، صاح بصوت كريه يشبه صرير الحديد على الحجر:
– ماذا تريد يا سجين؟
– إغفر لي عملي، سامحني على جرأتي، كل ما أطلبه أن ترسل هذه الرسالة إليهم!.
– رسالة!، إليهم!، ممن يكونون؟
بصوت واهن كمن حانت ساعته:
– كل شيء مكتوب فيها ومدون، لن أجعلك تتحير، خذها وحقق لي رغبتي الأخيرة في الحياة، أرجوك.
دون أن ينبس العملاق، تلقفها بخشونة، دعكها بقوة، طواها في يده كأنه يحطم عصفور صغير، أغلق الفتحة، عاد النور الباهت الأقرب إلى الظلمة يغلف المكان ويمتصه.
تراجع الحارس خطوتين، أرتجت الأرض من تحته، أسند الورقة على يده، بدت كراحة كفه، أو كورقة خس صفراء ذابلة نساها الزمن، قرأ ما جاء فيها، ضحك من خيبة ضمير، كانت بالنسبة له هذيان محموم أو مجنون، دقق النظر فيها فلم يجد كما توقع أي عنوان، تدحرج في مشيته نحو مشبك حديدي مغروس في جدار الممر وفتحاته تطل عن علو على شارع المدينة الكبيرة الواسعة الصاخبة بالحياة، أمسك ياقة قميص ضمير وبدأ بتقطيعها إلى أجزاء صغيرة، يقذف بها في الهواء عبر فتحات المشبك الحديدي وهو ينظر لها مغتبطاً بعمله بعد أن شعر بزهو كبير ونظره لم ينزل عن قصصات الورق التي بدأت تنتشر في الهواء وتسقط على الأشجار ورؤوس الناس وأسفلت الشوارع كالمناشير.. في حين ظل ضمير يردد حتى آخر نفس من عمره بجلسته المقرفصة داخل زنزانته الباردة قول الكاتب الروسي العالمي خالد الذكر دوستوفسكي” كل شيء يتم في هذا الزمان على نحو عجيب حتى البر والإحسان “.