أدب

خزانة الأحزان

قصة قصيرة

بقلم: د. فاطمة الزهراء جمال الدين
أخذ الكاتب “أدهم سالم” يغدو ويروح في طرقات شقته الواقعة على كورنيش النيل في “المعادي”، قضى كل فترة الصباح يدور أحيانًا في دوائر حول نفسه، أو يتجه للحظات إلى غرفة مكتبه ويجلس ويمسك بالقلم ويسطر بضع كلمات أو أسطر، ثم يعود ويشطب على ما كتبه أو يمزق الورقة في ضجر وغضب ويلقي بها في سلة المهملات.
مضت عدة أيام وأسابيع وهو على هذه الحال، أصابه الأرق، لم يَعُد يقدر على مغادرة منزله، تصله عشرات الدعوات كل يوم لعقد ندوة عنه، أو استضافته في لقاء ليدلي بدلوه عن أحد الزملاء، لكنه كان يعتذر عن معظم هذه اللقاءات، وصار لا يقبل إلا القليل في الآونة الأخيرة، تحولت نظرات التعجب إلى أسئلة على ألسنة الأصدقاء والنقاد، ماذا يفعل؟ كيف يعتذر عن كل هذا؟ ألا يخشى أن ينُسي؟
كان وحده مَنْ يعيش في آتون أفكاره وجحيمه الخاص، لم يدرِ أحد أن معينه قد نضب، وأنه يشعر بالعجز، وأن الكلمات تهرب وتتسرب من بين يديه كالماء، وكلما توصل إلى فكرة لعمله الأدبي الجديد ويحاول التعبير عنها يجد نفسه كأنه ينظر إلى سراب، وتتجمد الكلمات على أطراف سن قلمه وتأبى أن تتشكل وتكون جمل رائعة كعادة أسلوبه.
مضت الأيام ثقيلة عليه، ابتعد الجميع من حوله، بدأ بريق شهرته يخبو قليلا، ظهر كتَّاب آخرون على الساحة حصدوا جوائز “البوكر”، و”كتارا”، وغيرها. لم يعد يأبه بذلك. كلما وصلته أخبار على وسائل التواصل عن جائزة، يغلق الموقع يتمنى النجاح للجميع، لكنه يشعر بالمرارة والحسرة.
وفي يوم من أيامه المتشابهة قررأن تكون قصته الجديدة عن تجربته الشخصية في البحث عن الإلهام والكلمات، لعل تجربته الشخصية تصل إلى آخرين عانوا أو يعانون مثله. جلس على مكتبه ورتب بعض الأوراق البيضاء وأخذ يكتب الكلمات التالية:
“كلما اشتدت الظلمة داخلي يسكب قلمي حبره على أوراقي، وتسري الكلمات في عروق أسطرها، رغم أن الشمس تضيء اليوم وكل يوم، إلا أنني لم أعد أشعر بها كأنها لم تعد موجودة في أفقي وعالمي. أدركت أنه كلما أطبقت عليَّ الدنيا بقبضتها وغرست أظافرها الزاهية في عقلي، كلما فُتحت الخزانة المغلقة وانطلقت مئات الأفكار والأطروحات تحلق في سماء الصفحات البيضاء راسمة لوحات شتى، أحيانًا ملونة، وأحيانًا زرقاء، صرت أبحث طوال اليوم عن وقود لعقلي وقلمي،أدركت أن الحزن الدفين هو وقود عقلي وقلمي، يتجدد كلما خيم على حياتي بعض المآتم ومجالس العزاء، فأجد قريحتي النائمة في خدرها كالأميرة تنتعش وتتجدد وتنفض الكسل. صار العالم القاتم رحيقًا لقلمي؛ النوافذ المغلقة، الأستار ثقيلة خانقة لكل نور يحاول أن يتسلل ويُطلق جناحيْن صغيريْن للسعادة في رحاب البيت، ينسكب الحبر هوينًا، وأحيانا دفعة واحدة، ينسكب في بوتقة الأحزان.
رحتُ أختبئ في خزانتي، وأغلقها عليَّ نصف إغلاق، تاركًا بصيصًا من الضوء يتسلل لاهثا يُضئ لقلمي دروبه على صفحات أوراقي، مضى الوقت، وأصبحت الخزانة خاوية فيما عداي، ووشاح أبيض تتخلله خيوط سوداء لامعة، كان لرفيقة روحي ذات يوم، أحيط كتفي به يقيني لسعات البرد. اعتدت المكان الذي بدا أول الأمر ضيقًا، ثم شعرت به يتسع كل يوم، صار فضاءً رحبًا، وفى أيام أخري يبدو ضيقًا خانقًا، تقبع البرودة في أركانه تنظر إليَّ شاخصة، تأبى أن تمن عليّ بدفء فكرة؛ فيصمت القلم، وأدركت ذات يوم أنني صرت والخزانة كيانًا واحدًا، وأن ما بداخلنا يتشابه!
انسابت الكلمات من قلم “أدهم”، ومضت ساعات طويلة، وهو يكتب وتحول ما كان بداية قصة قصيرة بعنوان”خزانة الأحزان” إلى قصة طويلة، وضع القلم أخيرًا بعد أن تيبَّست أصابعه، وتشنجت أنامله المتشبثة به، كان يخشى إذا تركه أن يأبى عليه مرة أخرى ويتوقف ضجيج الكلمات في عقله. وضع القلم ناظرًا إليه بامتنان وشبح ابتسامة رضا يطل من شفتيه، رفع عينيه وهو يتثاءب ويحاول تحريك عنقه يمينًا ويسارًا، وقعت عيناه على ساعة الحائط ذات الإطار الذهبي المزخرف بأوراق شجر، فاندهش من الساعات التي مضت، ولم ينتبه حتى أكمل قصته. شكر الله أن أخرجه من خزانة الأحزان.
أمسك جواله واتصل بناشره يخبره بوجود قصة جديدة، شعر وكأن الرجل على الناحية الأخرى من الهاتف يكاد يتراقص فرحًا، وأخذ يردد كلمات التبريكات والتهليلات. أغلق الخط ثُمَّ عاد مرة أخرى للاتصال بأحد البرامج التي كانت قد اتصلت به تعرض عليه الاستضافة، ولكنه أعتذر.أجابت مُعدة البرامج معلنة كامل ترحيبها باستضافته في الموعد الذي يقرره. أغلق الخط مرة أخرى وقام إلى النافذة وجذب جميع الستائر الثقيلة التي كانت تحجب ضوءالقمر. خرج من حجرة المكتب وذهب إلى خزانة غرفة النوم، فتح الجانب الأيسر منها، كان فارغًا إلا من الوشاح الأبيض ذي الخطوط السوداء، احتضنه وتذكر صاحبته التي رحلت عن الدنيا منذ أشهر وتركت حياته فارغة إلا من الأحزان، أخذ يتشمم عطرها، مازال الشال عَبِقًا رغم مرور الأشهر الطويلة. أغلق الخزانة ثم أمسك به وأحاط به كتفيه وأخذ يدور حول نفسه بخطوات راقصة وعيون ممتلئة بدموع أخذت تنساب على خديه ساخنة، وانساب ضوء القمر متسللًا عبر النافذة المفتوحة يرافق خطواته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى