قراءة في رواية “العائد إلى سيرته” للكاتب باسل عبد العال
سلمى جبران | شاعرة وناقدة فلسطينية
“غيوم في سماء المخيّم”
مبارك للشاعر والكاتب باسل عبد العال على هذه الرواية المُغايرة التي تقوم من أوّلِها حتّى نهايتها على أليجوريا (Allegory)
تتّضِحُ معالِمُها مع سيْرِ الرواية ولكِنَّها تبقى كغَيْمة مُحَلِّقة عاليًا في سماء هذا الشعب المشرَّد المعذّب أينما حلّ. يُهدي عبد العال كتابّه هذا إلى الذينَ حفظوا التفاصيل وماتوا ناطقين. ومن هُنا تتعدّى الرواية كَوْنَها أليجوريا وتتحوّل إلى نُطْق بعد الموت فيتعاظَمُ أثَرُها وتأثيرُها!
“كاتِمُ الصوت” هوَ البطل وهو الراوي… الريح والمَوْج يتحالفان ويدفعان البطل إلى النُّطق الأوّل. داء كاتم الصوت هو فمٌ محشوٌّ بالرمل، والعيون المستسلِمة للريح والصحراء أخَذَتْ منه إيقاعَ الكلام في النُّطق الأوّل، وكأنَّ الصدمة أخرَسَتْهُ ومنَحَتْهُ لغةَ الظلّ، ص9-10. يبقى السؤالُ هنا سؤالًا: من أينَ أتى هذا الرمل الساخن إلى الشاطئ البارد؟ ومن هيَ الريح؟ ومن هي الصحراء؟ وما هي لغةُ الظل؟ ومن يتكلَّمُها؟!
ص11 توجد لوحات رُسمت بالكلمات، لوحات خرافيّة أسطوريّة عن معاناة المخيَّم، مخيَّم نهر البارد، الذي يعيش فيه عبد العال! ص14 بدل أن يستعين الكاتب بالأسطورة لوصف المعاناة فإنّهُ يخلق أسطورة الشواهد التي فُقدَتْ في المكان منذُ قرون وتحجّرتْ هي الأخرى بأضلاع السفينة مع أهل الريح الذين وصلوا إلى الشاطئ!!! اقتباس: “أغمضْتُ عينيّ في خفاءٍ سرّيّ كي أجرِّبَ ترويض الجرح على طريقتي. أريد أن أُريح ناظريَّ من هَوْل المشهد البحري الذي ينفتح على المصائر المتعدِّدة، أغمضْتُ عينيَّ حتى سقطتُ في الحلم: حلمت بأنّي صرتُ جماعة في واحد وعُدْتُ إلى سيرتي فنطقْتُ النُّطقَ الأوّل”، ص14.
يقسم الكاتب هذه الرواية القصيرة المُكَثَّفة (102 صفحة) إلى تسعة أبواب ويُسمّي كلّ باب “النُّطْق”، من الأوّل حتى التاسع.
النُّطْق الثاني يحْدُث كجُزْء من مشهد الخيمة على الشاطئ الشمالي البارد وفيه يتحدَّثُ “كاتِمُ الصوت” إلى “عامود الخيمة”، ومن الأسئلة التي أجابَها فهمنا أنه من أهل الريح، لا يعرف نفسَهُ ولا يعرف من هو! فيسألُهُ عامود الخيمة: كم غيمة مرّتْ فوقَ هذا المكان؟ فيجيب: 74 غيمة”، انتهى الاقتباس. هل هذا الرقم يحدِّدُ تاريخ النكبة!؟ ولكِنَّها بَدَأَتْ قبل ذلك بعقود!
ويقولُ في مكانٍ آخر من هذا النُّطق الثاني: “الريح قذفتني من الصحراء إلى شاطئ الخيمة لأعودَ إلى أهل الريح لأنّني منهم” ص19. وهنا بدأت الطلاسم تُفَكُّ وتتَّضِح بالنسبة لي، حيثُ لغة الريح يحكيها “كاتم الصوت” والناس تتجمهَرُ حولَهُ ويسألونَ أطفالَهُم، خائفين، إذا تعلَّموا في المدرسة عن لغتِهِ، لُغةِ الظل، فيُجيب العجوز عامود الخيمة، ص23: “صرَخْتُ في وجهِهِ لكي يعودَ إلى رُشدِهِ، بعْدَ أن نموتَ هنا من سيعرِفُ أنّنا من هناك، هذا الطفل مِثْلُ أبيه حين وصَلَ الشاطئ كانَ فمُهُ محشوًّا بالرمل الجاف، وقد عالجناه من النُّطْقِ الأوّل، فبَدَأَ يُدرِكُ أهمّيّةَ السير ومعركَتِنا معَ الريح، وصارَ يبحَثُ ويحلُم طوالَ الوقت، أينَ هوَ الآن؟ في بيتِهِ/الخيمة وغارقٌ في الكتب والقهوة والنظر منَ النافذة على الشاطئ الشمالي البارد، ساعةً يتخيَّلُ أنَّ السفينة قامت من تَحَجُّرِها من جديد ونفَضَتْ عنها الماء والرمل كي تعود، وساعةً يتخيَّلُ أنَّ أهلَ الريح هجموا على العامود وأخذوا الأوراق المعلَّقة وأنقذوها وعانقوها وحَفِظوها عن ظَهْرِ قَلْب، وانتصروا على الريح وعلى معاني الريح، وهوَ يشربُ قهوتَهُ ويحلُم ليرى أكثر… ليبحثَ أكثر، ويقول: البحْثُ سِلاحُ الحياةِ الأخير”! انتهى الاقتباس.
ينتهي النُّطق الأوّل والثاني هنا ويُشير الاثنان إلى وضع مُرَكَّب، واقعي وأسطوري/خُرافي في الوقت ذاتِهِ ويتضمَّنان ملامح مشفَّرة عن حياة المُخيَّم.
في النُّطق الثالث يموت عامود الخيمة في عمر الثمانين، ويتساءل البطل/الراوي/كاتم الصوت: “هل ماتَ البُرهان في إثباتِ الحقيقة!؟ ص30. وبدأ البحث عن الحقيقة في سيَرِ الأقدمين/اللاجئين الذين قَذَفَتْهُم السُّفُنُ المتحجِّرة على شاطئ البحر إلى مخيّم نهر البارد! يحضُرُني هنا محمود درويش حينَ قال: “أن تكون فلسطينيا يعني أن تصاب بأمل لا شفاء منه”، “تعالَيْ نخونُ الغيابَ ونلتقي!”
في النُّطقِ الرابع أصبَحَ الكلام أقوى قليلًا ولكنَّهُ لا يزال يخشى النُّطقَ لأنَّ، أقتبِس: “العثور على التفاصيل يعني أن نخوضَ معرَكَةَ الذاكرة والنسيان، مِمّا يُقلقُ الريح والطائرِ الأسْوَد…” ص42، حتّى أصبَحَ ألتسهايْمِر مَرَضَ العصر، ص43. هل الريح كنايةٌ عن الشعْب؟؟، إذن ما معنى أنَّ الريح تنقل ألتسهايْمِر، وما معنى مقاومة الريح وضَرَباتِ الريح الخطيرة!؟ في هذا الفصْل- النُّطقَ الرابِع!!؟
ص46 التقى فتاةً ذات ثوْبٍ زهريٍّ فاتح ووجهٍ برتقاليٍّ مائلٍ إلى الغُروب، وكَتَبَ لها رسالة لأنَّ فمَهُ لا يزال محشوًّا بالرمل، ولكنَّهُ باحِثٌ مهووس بالسِّيَرِ والتفاصيل!
في النُّطقَ الخامس أصبَحَتْ عُقدةُ اللسان أخفّ وبَدَأَ طعْمُ الرَّمْل يزول وطعْمُ الزيتون والزعتَر ينتشِرُ في فَمِهِ، فيتساءَلُ: هل ثمَّةَ فجْر!؟ ويظلُّ يبحَثُ جاهِدًا عن التفاصيل، ثُمَّ يقول: “ستُشْرِقُ الشمس في التفاصيل” ص64
وفي النُّطْق السادس/الفصل السادس لا يزالُ يبحثُ عن التفاصيل ويريدُ أنْ يتخَلَّصَ من طَعْمِ الرمْل، فيقول: “مسيرةُ النُّطْق ليسَت على ما يُرام، لقد فقدْنا الكثير من كِبارِنا: العجوز والمرأة وضَرَباتِ الريح” ص68 ويُنهي خِطابَهُ بأنَّ رائحةَ الزعتر ستفوح من فَمِهِ وسنشتمّ الرائحة من التراب إلى التراب، ص73.
في الفصل/ النُّطْق السابع، ابن كاتم الصوت تأخَّرَ ولم ينهَض بَعْدها مات؟!… ويُنهي الفصل، أقتبس: “لماذا نُربّي فِراخَ الحكايةِ فينا؟ ولو كانَ حليبُها حِبْرًا على وَرَقٍ من حَجَر!” وص83 يقول: ” اكتفيتُ بالرؤى البعيدةِ للحُروفِ التي بَدَأَتْ تظهَرُ على الصخور التي تأْخُذُ شكْلَ السُّفُنِ المتحجّرة على الشاطئ الشمالي البارد”، انتهى الاقتباس.
في الفصل/ النُّطْق الثامِن عادَ لَهُ النُّطْق الحُرّ وكأنَّ شيئًا لم يكُن، بحّةٌ خفيفة في الحُنجَرة، لكنَّهُ نَطَقَ بعْدَ زوالِ طعمِ الرمل الجافّ!
في النُّطْق الأخير/التاسع: ص97 “العُزلة حاصَرَتْهُ من جميع الجهات ولم يقرأ، فصَرَخَ صرْخةً هزَّتْ أرجاء أهل الريح، ركَضَ الجميع يمينًا وشمالًا، ومنهُم من ركض نحو قبْرِ العجوز “عامود الخيمة” …. وتستمرّ هذه الدراما حول الفَزَع من مَرَضِ النسيان. وبعد ذلك خاطّبّ والِدَهُ: “لقد أصبَحْتُ باحثًا يا أبي بعْدَ أن تخَرَّجْتُ من جامعة “عامود الخيمة”، تعَجَّبَ الأب قائلًا: جامعة سرير العجوز “عامود الخيمة”!! فأجابَهُ: نعم، ما الغرابة في ذلك!؟ يجب أن تبارِكَ لي التخرُّج الكبير، فأنا لن أُصابَ بمَرَضِ النسيان أبَدًا. تَخَرَّجْتُ لأحميكَ وأحمي الذاكرة من بعدك” ص100.
الرواية بكلِّ أبعادها، تقول: يجب أن نبحث كي نحرس البراهين من الضياع ويجب أن نبحث عن السِّيَر المعلَّقة كي نحمي الذاكرة وأوراق الأراضي والقرى التي أحضرها أجدادنا بعد النكبة إلى المخيمات.
لم أستطع الانتهاء من قراءة الرواية قبل أن أقرأ قصيدة محمود درويش: قُلْ ما تشاء
ضَعِ النقاطَ على الحروفِ.
ضَعِ الحروفَ مع الحروفِ لتُولَدَ الكلماتُ،
غامضةً وواضحةً، ويبتدئَ الكلامُ.
وضَعِ الكلامَ على المجاز. ضَعِ المجازَ على
الخيال. وضَعِ الخيالَ على تَلفُّته البعيد.
وضَعِ البعيدَ على البعيدِ…. سَيُولَدُ الإيقاعُ
عند تَشَابُكِ الصُّوَرِ الغريبةِ من لقاء
الواقعيِّ مع الخياليِّ المُشَاكس.
ورواية الكاتب باسل عبد العال ذكّرَتْني بهذه القصيدة، حيثُ أنَّ الرواية تتّخذُ المجازَ كاملًا، ربّما للتعبير عن الألم الرهيب الذي يعيشُهُ اللاجئون في المخيَّمات في الوطن وخارجَهُ، والذي يستحيل التعبير عنْه بغير المجاز.
مباركٌ هذا الإصدار.